التفاسير

< >
عرض

ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
٤١
-الروم

روح المعاني

{ ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ } كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق وإخفاق الصيادين والغاصة ومحق البركات من كل شيء وقلة المنافع في الجملة وكثرة المضار، وعن ابن عباس أجدبت الأرض وانقطعت مادة البحر وقالوا: إذا انقطع القطر عميت دواب البحر، وقال مجاهد: ظهر الفساد في البر بقتل ابن آدم أخاه وفي البحر بأخذ السفن غصباً، وفي رواية عن ابن عباس بأخذ جلندي كل سفينة غصباً، ولعل المراد التمثيل، وكذا يقال في قتل ابن آدم آخاه وكان أول معصية ظهرت في البر؛ قال الضحاك: كانت الأرض خضرة مونقة يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة وكان ماء البحر عذباً وكان لا يفترس الأسد البقر، ولا الذئب / الغنم فلما قتل قابيل هابيل أقشعر ما في الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحاً زعافاً وقصد الحيوان بعضه بعضاً.

وذكر أن أول معصية في البحر غصب جلندي كل سفينة تمر عليه فكأن تخصيص الأمرين بالذكر لذلك، وأياً ما كان فالبر والبحر على ظاهرهما، وعن مجاهد البر البلاد البعيدة من البحر والبحر السواحل والمدن التي عند البحر والأنهار، وقال قتادة: البر الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحارى والعمود والبحر المدن، والعرب تسمي الأمصار بحاراً لسعتها، ومنه قول سعد بن عبادة في عبد الله بن أبـي بن سلول، ولقد أجمع أهل هذه البحيرة يعني المدينة ليتوجوه. قال أبو حيان: ويؤيد هذا قراءة عكرمة { والبحور } بالجمع ورويت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجوز النحاس أن يكون البحر على ظاهره إلا أن الكلام على حذف مضاف أي مدن البحر فهو مثل { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف: 82] وجوز أيضاً أن يراد بالفساد المعاصي من قطع الطريق والظلم وغيرهما، و { أل } في { ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ } للجنس وكذا في { ٱلْفَسَادَ } أي ظهر جنس الفساد من الجدب والموتان ونحوهما في جنس البر وجنس البحر.

{ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ } أي بسبب ما فعله الناس من المعاصي والذنوب وشؤمه وهذا كقوله تعالى: { وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [الشورى: 30] وهو على التفسير الأول للفساد ظاهر وأما على تفسيره بالمعاصي فالمعنى ظهرت المعاصي في البر والبحر بكسب الناس إياها وفعلهم لها، ومعنى قوله تعالى: { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } على الأول ظاهر وهو أن الله تعالى قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة لعلهم يرجعون عما هم عليه وأما على الثاني فاللام مجاز على معنى أن ظهور المعاصي بسببهم مما استوجبوا به أن يذيقهم الله تعالى وبال أعمالهم إرادة الرجوع فكأنهم إنما فسدوا وتسببوا لفشو المعاصي في الأرض لأجل ذلك.

وقرأ السلمي والأعرج وأبو حيوة وسلام وسهل وروح وابن حسان وقنبل من طريق ابن مجاهد وابن الصباح وأبـي الفضل الواسطي عنه ومحبوب عن أبـي عمرو (لنذيقهم) بالنون.

وظهور الفساد المذكور على ما أخرج ابن جرير وابن أبـي حاتم عن قتادة كان قبل أن يبعث النبـي صلى الله عليه وسلم فلما بعث عليه الصلاة والسلام رجع من رجع من الناس عن الضلال والظلم، وقيل: كان أوائل البعثة وذلك أن كفار قريش فعلوا ما فعلوا من المعاصي والإصرار على الشرك وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم فدعا صلى الله عليه وسلم فاقحطوا وحل بهم من البلاء ما حل فأخبر الله سبحانه أن ذلك بسبب معاصيهم ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون. وفسر هذا القائل: { ٱلنَّاسِ } بكفار قريش، وقيل: كان في زمان سابق على زمان النزول أعم من أن يكون الزمان الذي قبيل البعثة أو بعيدها أو غير ذلك، وحكم الآية عام في كل فساد يظهر إلى يوم القيامة، ومن هنا قيل: من أذنب ذنباً يكون جميع الخلائق من الإنس والدواب والوحوش والطيور والذر خصماءه يوم القيامة لأنه تعالى يمنع المطر بشؤم المعصية فيتضرر بذلك أهل البر والبحر جميعاً، وروي عن شقيق الزاهد أنه قال: من أكل الحرام فقد خان جميع الناس.

ووجه تعلق الآية بما قبلها أن فيها نعي ما يعم الشرك وغيره من المعاصي / وفيما قبل نعى الشرك وفيها من تخويف المشركين ما فيها. وقال الإمام: في وجه التعلق هو أن الشرك سبب الفساد كما قال تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءالِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء: 22] وإذا كان الشرك سببه جعل الله تعالى إظهارهم الشرك مورثاً لظهور الفساد ولو فعل بهم ما يقتضيه قولهم لفسدت السماوات والأرض كما قال سبحانه: { تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً } [مريم: 90] وإلى هذا أشار عز وجل بقوله سبحانه: { وَلِنِذيقَهُمْ بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ } انتهى، فتأمل وأنصف.