التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ
٥٤
-الروم

روح المعاني

{ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ } مبتدأ وخبر أي ابتدأكم ضعفاء وجعل الضعف أساس أمركم كقوله تعالى: { وَخُلِقَ ٱلإِنسَـٰنُ ضَعِيفاً } [النساء: 28] فمن ابتدائية، وفي الضعف استعارة مكنية حيث شبه بالأساس والمادة وفي إدخال من عليه تخييل، ويجوز أن يراد من الضعف الضعيف بإطلاق المصدر على الوصف مبالغة أو بتأويله به أو يراد من ذي ضعف والمراد بذلك النطفة أي الله تعالى الذي ابتدأ خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة كقوله تعالى: { مّن مَّاء مَّهِينٍ } [السجدة: 8] وهذا التفسير وإن كان مأثوراً عن قتادة إلا أن الأول أولى وأنسب بقوله تعالى: { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ } وذلك عند بلوغكم الحلم أو تعلق الروح بأبدانكم { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً } إذا أخذ منكم السن والمراد بالضعف هنا ابتداؤه ولذا أخر الشيب عنه أو الأعم فقوله سبحانه: { شيبة } للبيان أو للجمع بين تغيير قواهم وظواهرهم.

وفتح عاصم وحمزة ضاد { ضِعْفَ } في الجمع وهي قراءة عبد الله وأبـي رجاء. / وقرأ الجمهور بضمها فيه والضم والفتح لغتان في ذلك كما في الفقر والفقر الفتح لغة تميم والضم لغة قريش، ولذا اختار النبـي صلى الله عليه وسلم قراءة الضم كما ورد في حديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه وأحمد وابن المنذر والطبراني والدارقطني وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قرأت على النبـي صلى الله عليه وسلم { ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ } أي بالفتح فقال: { مّن ضَعْفٍ } يا بني أي بالضم لأنها لغة قومه عليه الصلاة والسلام ولم يقصد صلى الله عليه وسلم بذلك رد القراءة الأخرى لأنها ثابتة بالوحي أيضاً كالقراءة التي اختارها، وروى عن عاصم الضم أيضاً، وعنه أيضاً الضم في الأولين والفتح في الأخير، وروي عن أبـي عبد الرحمن والجحدري والضحاك الضم في الأول والفتح فيما بعد. وقرأ عيسى بضم الضاد والعين وهي لغة أيضاً فيه. وحكى عن كثير من اللغويين أن الضعف بالضم ما كان في البدن والضعف بالفتح ما كان في العقل، والظاهر أنه لا فرق بين المضموم والمفتوح وكونهما مما يوصف به البدن والعقل، والمراد بضعف الثاني عين الأول، ونكر لمشاكلة { قُوَّةَ } وبالأخير غيره فإنه ضعف الشيخوخة وذاك ضعف الطفولية، والمراد بقوة الثانية عين الأولى ونكرت لمشاكلة { ضِعـفاً } وحديث النكرة إذا أعيدت كانت غير أغلبـي، وتكلف بعضهم لتحصيل المغايرة فيما نكر وكرر في الآية فتدبر.

{ يَخْلُقُ مَا يَشَاء } خلقه من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الضعف والقوة والشيبة وخلقها إما بمعنى خلق أسبابها أو محالها وإما إيجادها أنفسها وهو الظاهر ولا داعي للتأويل فإنها ليست بعدم صرف { وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ } المبالغ في العلم والقدرة فإن الترديد فيما ذكر من الأحوال المختلفة مع إمكان غيره من أوضح دلائل العلم والقدرة.