التفاسير

< >
عرض

فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ
٦٠
-الروم

روح المعاني

{ فَٱصْبِرْ } أي إذا علمت حالهم وطبع الله تعالى على قلوبهم فاصبر على مكارههم من الأقوال الباطلة والأفعال السيئة { إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } وقد وعدك عز وجل بالنصرة وإظهار الدين وإعلاء كلمة الحق ولا بد من إنجازه والوفاء به لا محالة { وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ } لا يحملنك على الخفة والقلق { ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ } بما تتلو عليهم من الآيات البينة بتكذيبهم إياها وإيذائهم لك بأباطيلهم التي من جملتها قولهم: { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ } [الروم: 58] فإنهم شاكون ضالون ولا يستبدع أمثال ذلك منهم، وقيل: أي لا يوقنون بأن وعد الله حق وهو كما ترى، والحمل وإن كان لغيره صلى الله عليه وسلم لكن النهي راجع إليه عليه الصلاة والسلام فهو من باب لا أرينك هٰهنا وقد مر تحقيقه فكأنه قيل: لا تخف لهم جزعاً، وفي الآية من إرشاده تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وتعليمه سبحانه له كيف يتلقى المكاره بصدر رحيب ما لا يخفى.

وقرأ ابن أبـي إسحٰق. ويعقوب { وَلاَ يستحقنك } بحاء مهملة وقاف من الاستحقاق، والمعنى لا يفتننك الذين لا يوقنون ويكونوا أحق بك من المؤمنين على أنه مجاز عن ذلك لأن من فتن أحداً استماله إليه حتى يكون أحق به من غيره، والنهي على هذه القراءة راجع إلى أمته عليه الصلاة والسلام دونه صلى الله عليه وسلم لمكان العصمة، وقد تقدم نظائر ذلك وما للعلماء من الكلام فيها. وقرأ الجمهور بتشديد النون وخففها ابن أبـي عبلة ويعقوب.

ومن لطيف ما يروى ما أخرجه ابن أبـي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبـي حاتم والحاكم والبيهقي في «سننه» عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلاً من الخوارج ناداه وهو في صلاة الفجر فقال: { وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ } [الزمر: 65] فأجابه كرم الله تعالى وجهه وهو في الصلاة { فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ } ولا بدع في هذا الجواب من باب مدينة العلم وأخي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات: { الۤـمۤ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } [الروم: 1ـ3] إلى آخره، قيل: الألف إشارة إلى ألفة طبع المؤمنين واللام إلى لؤم طبع الكافرين والميم إلى مغفرة رب العالمين جل شأنه، والروم إشارة إلى القلب، وفارس المشار إليهم بالضمير النائب عن الفاعل إشارة إلى النفس، والمؤمنون إشارة إلى الروح والسر والعقل، ففي الآية إشارة إلى أن حال أهل الطلب يتغير بتغير الأوقات فيغلب فارس النفس روم القلب تارة ويغلب روم القلب فارس النفس بتأييد الله تعالى ونصره سبحانه تارة أخرى وذلك في بعض سنين من أيام الطلب ويومئذ يفرح المؤمنون الروح والسر والعقل، وعلى هذا المنهاج سلك النيسابوري: { { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } [الروم: 7] فيه إشارة إلى حال المحجوبين ووقوفهم على ظواهر الأشياء، وما من شيء إلا له ظاهر وهو ما تدركه الحواس الظاهرة منه، وباطن وهو ما يدركه العقل بإحدى طرق الإدراك من وجوه الحكمة فيه، ومنه ما هو وراء طور العقل وهو ما يحصل بواسطة الفيض الإلهي وتهذيب النفس أتم تهذيب وهو وإن لم يكن من مستنبطات العقل إلا أن العقل يقبله، وليس معنى أنه ما وراء طور العقل أن العقل يحيله ولا يقبله كما يتوهم، ومما ذكرنا يعلم أن الباطن لا يجب أن يتوصل إليه بالظاهر بل قد يحصل لا بواسطته وذلك أعلى قدراً من حصوله بها، فقول من يقول: إنه لا يمكن الوصول إلى الباطن إلا بالعبور على الظاهر لا يخلو عن بحث { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } [الروم: 15] أي يسرون بالسماع في روضة الشهود وذلك غذاء أرواحهم ونعيمها، وأعلى أنواع السماع في هذه النشأة عند السادة الصوفية ما يكون من الحضرة الإلهية بالأرواح القدسية والأسماع الملكوتية، وهذه الأسماع لم يفارقها سماع { أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ } [الأعراف: 172] واشتهر عندهم السماع في سماع الأصوات الحسنة وسماع الأشياء المحركة لما غلب عليهم من الأحوال من الخوف والرجاء والحب والتعظيم وذلك كسماع القرآن والوعظ والدف والشبابة والأوتار والمزمار والحداء والنشيد وفي ذلك الممدوح والمذموم. وفي «قواعد عز الدين عبد العزيز بن عبد عبد السلام الكبرى» تفصيل الكلام في ذلك على أتم وجه، وسنذكر إن شاء الله تعالى قريباً ما يتعلق بذلك والله تعالى هو الموفق للصواب { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ } [الروم: 17] الخ فيه إشارة إلى أنه ينبغي استغراق الأوقات في تنزيه الله سبحانه والثناء عليه جل وعلا بما هو سبحانه وتعالى أهله فإن ذلك روضة هذه النشأة، وفي الأثر «إن حلق الذكر رياض الجنة» { { يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيّتَ مِنَ ٱلْحَىّ } [الروم: 19] فيه إشارة إلى أن الفرع لا يلزم أن يكون كأصله:

إنما الورد من الشوك ولا ينبت النرجس إلا من بصل

{ وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوٰجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا } [الروم: 21] فيه إشارة إلى أن الاشتراك في الجنسية من أسباب الألفة:

إن الطيور على أشباهها تقع

{ { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [الروم: 32] فيه إشارة إلى أنه عز وجل لم يكره أحداً على ما هو عليه إن حقاً وإن باطلاً، وإنما وقع التعاشق بين النفوس بحسب استعدادها وما هي عليه فأعطى سبحانه جلت قدرته كل عاشق معشوقه الذي هام به قلب استعداده وصار حبه ملء فؤاده وهذا / سر الفرح، وما ألطف ما قال قيس بن ذريح.

تعلق روحي روحها قبل خلقنا ومن قبل ما كنا نطافا وفي المهد
فزاد كما زدنا فأصبح نامياً وليس إذا متنا بمنفصم العقد
ولكنه باق على كل حادث وزائرنا في ظلمة القبر واللحد

{ { وَإِذَا مَسَّ ٱلنَّاسَ } [الروم: 33] الآية فيها إشارة إلى أن طبيعة الإنسان ممزوجة من هداية الروح وإطاعتها ومن ضلال النفس وعصيانها، فالناس إذا أظلتهم المحنة ونالتهم الفتنة ومستهم البلية وانكسرت نفوسهم وسكنت دواعيها وتخلصت أرواحهم عن أسر ظلمة شهواتها رجعت أرواحهم إلى الحضرة ووافقتها النفوس على خلاف طباعها فدعوا ربهم منيبين إليه فإدا جاد سبحانه عليهم بكشف ما نالهم ونظر جل وعلا باللطف فيما أصابهم عاد منهم من تمرد إلى عادته المذمومة وطبيعته الدنية المشؤمة { ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ } [الروم: 41] الخ فيه إشارة إلى أن الشرور ليست مرادة لذاتها بل هي كبط الجرح وقطع الأصبع التي فيها آكلة { فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ } [الروم: 60] فيه إشارة لأهل الوراثة المحمدية أهل الإرشاد بأن يصبروا على مكاره المنكرين المحجوبين الذين لا يوقنون بصدق أحوالهم ولذا يستخفون بهم وينظرون إليهم بنظر الحقارة ويعيرونهم وينكرون عليهم فيما يقولون ويفعلون، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الموقنين وأن يحفظنا وأولادنا وإخواننا من الأمراض القلبية والقالبية بحرمة نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.