التفاسير

< >
عرض

أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ أوْلَـٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
١٩
-الأحزاب

روح المعاني

{ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة على ما روي عن مجاهد وقتادة، وقيل: بأنفسهم، وقيل: بالغنيمة عند القسم، وقيل: بكل ما فيه منفعة لكم وصوب هذا أبو حيان، وذهب الزمخشري إلى أن المعنى أضناء بكم يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف وذلك لأنهم يخافون على أنفسهم لو غلب النبـي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين حيث لم يكن لهم من يمنع الأحزاب عنهم ولا من يحمي حوزتهم سواهم، وقيل: كانوا يفعلون ذلك رياء، والأكثرون ذهبوا إلى ما سمعت قبل وعدل إليه مختصر و«كشافه» أيضاً وذلك على ما قيل لأن ما ذهب إليه معنى ما في التفريع بعد فيحتاج إلى جعله تفسيراً، ورجحه بعض الأجلة على ما ذهب إليه الأكثر فقال: إنما اختاره ليطابق معنى ويقابل قوله تعالى بعد: { أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ } ولأن الاستعمال يقتضيه فإن الشح على الشيء هو أن يراد بقاؤه كما في «الصحاح» وأشار إليه بقوله: أضناء بكم، وما ذكره غيره لا يساعده الاستعمال انتهى. قال الخفاجي: إن سلم ما ذكر من الاستعمال كان متعيناً وإلا فلكل وجهة كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام.

و { أَشِحَّةً } جميع شحيح على غير القياس إذ قياس فعيل الوصف المضعف عينه ولامه أن يجمع على افعلاء كضنين وأضناء وخليل وأخلاء فالقياس أشحاء وهو مسموع أيضاً، ونصبه عند الزجاج وأبـي البقاء على الحال من فاعل { { يَأْتُونَ } [الأحزاب: 18] على معنى تركوا الإتيان أشحة، وقال الفراء: على الذم، وقيل: على الحال من ضمير { { هَلُمَّ إِلَيْنَا } [الأحزاب: 18] أو من ضمير يعوقون مضمراً، ونقل أولهما عن الطبري وهو كما ترى، وقيل: من { ٱلْمُعَوّقِينَ } أو من / القائلين، ورداً بأن فيهما الفصل بين أبعاض الصلة، وتعقب بأن الفاصل من متعلقات الصلة وإنما يظهر الرد على كونه حالاً من { ٱلْمُعَوّقِينَ } لأنه قد عطف على الموصول قبل تمام صلته. وقرأ ابن أبـي عبلة { أَشِحَّةً } بالرفع على إضمار مبتدأ أي هم أشحة.

{ فَإِذَا جَاء ٱلْخَوْفُ } من العدو وتوقع أن يستأصل أهل المدينة { رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ } أي أحداقهم أو بأحداقهم على أن الباء للتعدية فيكون المعنى تدير أعينهم أحداقهم، والجملة في موضع الحال أي دائرة أعينهم من شدة الخوف. { كَٱلَّذِى يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } صفة لمصدر { يُنظَرُونَ } أو حال من فاعله أو لمصدر { تَدورُ } أو حال من { أَعْيُنَهُمْ } أي ينظرون نظراً كائناً كنظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حذراً وخوفاً ولواذاً بك أو ينظرون كائنين كالذي الخ أو تدور أعينهم دوراناً كائناً كدوران عين الذي الخ أو تدور أعينهم كائنة كعين الذي الخ، وقيل: معنى الآية إذا جاء الخوف من القتال وظهر المسلمون على أعدائهم رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم في رؤيتهم وتجول وتضطرب رجاء أن يلوح لهم مضرب لأنهم يحضرون على نية شر لا على نية خير، والقول الأول هو الظاهر.

{ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } أي أذوكم بالكلام وخاصموكم بألسنة سلطة ذربة قاله الفراء، وعن قتادة بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة يقولون: أعطونا أعطونا فلستم بأحق بها منا، وقال يزيد بن رومان: بسطوا ألسنتهم في أذاكم وسبكم وتنقيص ما أنتم عليه من الدين. وقال بعض الأجلة: أصل السلق بسط العضو ومده للقهر سواء كان يداً أو لساناً فسلق اللسان بإعلان الطعن والذم وفسر السلق هنا بالضرب مجازاً كما قيل للذم طعن، والحامل عليه توصيف الألسنة بحداد، وجوز أن يشبه اللسان بالسيف ونحوه على طريق الاستعارة المكنية ويثبت له السلق بمعنى الضرب تخييلاً، وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن السلق في الآية فقال: الطعن باللسان قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول الأعشى:

فيهم الخصب والسماحة والنجدة فيهم والخاطــب المسـلاق

وفسره الزجاج بالمخاطبة الشديدة قال: معنى سلقوكم خاطبوكم أشد مخاطبة وأبلغها في الغنيمة يقال: خطيب مسلاق وسلاق إذا كان بليغاً في خطبته، واعتبر بعضهم في السلق رفع الصوت وعلى ذلك جاء قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من سلق أو حلق» قال في «النهاية» أي رفع صوته عند المصيبة، وقيل: أن تصك المرأة وجهها وتمرشه، والأول أصح، وزعم بعضهم أن المعنى في الآية بسطوا ألسنتهم في مخادعتكم بما يرضيكم من القول على جهة المصانعة والمجاملة، ولا يخفى ما فيه، وقرأ ابن أبـي عبلة { صلقوكم } بالصاد.

{ أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ } أي بخلاء حريصين على مال الغنائم على ما روي عن قتادة، وقيل: على ما لهم الذين ينفقونه، وقال الجبائي: أي بخلاء بأن يتكلموا بكلام فيه خير، وذهب أبو حيان إلى عموم الخير ونصب { أَشِحَّةً } على الحال من فاعل { سَلَقُوكُم } أو على الذم، ويؤيده قراءة ابن أبـي عبلة { أَشِحَّةً } بالرفع لأنه عليه خبر مبتدأ محذوف أي هم { أَشِحَّةً } والجملة مستأنفة لا حالية كما هو كذلك على الذم، وغاير بعضهم بين الشح هنا والشح فيما مر بأن ما هنا مقيد بالخير المراد به مال الغنيمة وما مر مقيد بمعاونة المؤمنين ونصرتهم أو بالإنفاق / في سبيل الله تعالى فلا يتكرر هذا مع ما سبق، والزمخشري لما ذهب إلى ما ذهب هناك، قال هنا: فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة نقلوا ذلك الشح وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير وهو المال والغنيمة ونسوا تلك الحالة الأولى واجترؤا عليكم وضربوكم بألسنتهم الخ، وقد سمعت ما قال بعض الأجلة في ذلك. ويمكن أن يقال في الفرق بين هذا وما سبق: أن المراد مما سبق ذمهم بالبخل بكل ما فيه منفعة أو بنوع منه على المؤمنين ومن هذا ذمهم بالحرص على المال أو ما فيه منفعة مطلقاً من غير نظر إلى كون ذلك على المؤمنين أو غيرهم وهو أبلغ في ذمهم من الأول.

{ أُوْلَـٰئِكَ } الموصوفون بما ذكر من صفات السوء { لَمْ يُؤْمِنُواْ } بالإخلاص فإنهم المنافقون الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا في قلوبهم الكفر { فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَـٰلَهُمْ } أي أظهر بطلانها لأنها باطلة منذ عملت إذ صحتها مشروط بالايمان وبالإخلاص وهم مبطنون الكفر وفي «البحر» أي لم يقبلها سبحانه فكانت كالمحبطة وعلى الوجهين المراد بالأعمال العبادات المأمور بها، وجوزأن يكون المراد بها ما عملوه نفاقاً وتصنعاً وإن لم يكن عبادة، والمعنى فأبطل عز وجل صنعهم ونفاقهم فلم يبق مستتبعاً لمنفعة دنيوية أصلاً. وحمل بعضهم الأعمال على العبادات والإحباط على ظاهره بناء على ما روي عن ابن زيد عن أبيه قال نزلت الآية في رجل بدري نافق بعد بدر ووقع منه ما وقع فأحبط الله تعالى عمله في بدر وغيرها، وصيغة الجمع تبعد ذلك وكذا قوله تعالى: { لَمْ يُؤْمِنُواْ } فإن هذا كما هو ظاهر هذه الرواية قد آمن قبل، وأيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" يأبى ذلك فالظاهر والله تعالى أعلم أن هذه الرواية غير صحيحة.

{ وَكَانَ ذٰلِكَ } أي الاحباط { عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } أي هيناً لا يبالي به ولا يخاف سبحانه اعتراضاً عليه، وقيل: أي هيناً سهلاً عليه عز وجل، وتخصيص يسره بالذكر مع أن كل شيء عليه تعالى يسير لبيان أن أعمالهم بالاحباط المذكور لكمال تعاضد الحكم المقتضية له وعدم مانع عنه بالكلية، وقيل: { ذلك } إشارة إلى حالهم من الشح ونحوه، والمعنى كان ذلك الحال عليه عز وجل هيناً لا يبالي به ولا يجعله سبحانه سبباً لخذلان المؤمنين وليس بذاك، والمقصود مما ذكر التهديد والتخويف.