التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً
٣٧
-الأحزاب

روح المعاني

{ وَإِذْ تَقُولُ } خطاب للنبـي صلى الله عليه وسلم أي اذكر وقت قولك { لِلَّذِى أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } بتوفيقه للإسلام وتوفيقك لحسن تربيته وعتقه ومراعاته وتخصيصه بالنبـي ومزيد القرب { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } بالعمل بما وفقك الله تعالى له من فنون الإحسان التي من جملتها تحريره وهو زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه، وإيراده بالعنوان المذكور كما قال شيخ الإسلام: «لبيان منافاة حاله لما / صدر عنه عليه الصلاة والسلام من إظهار خلاف ما في ضميره الشريف إذ هو إنما يقع عند الاستحياء أو الاحتشام وكلاهما مما لا يتصور في حق زيد رضي الله تعالى عنه» وجوز أن يكون بياناً لحكمة إخفائه صلى الله عليه وسلم ما أخفاه لأن مثل ذلك مع مثله مما يطعن به الناس كما قيل:

وأظلم خلق الله من بات حاسداً لمن كان في نعمائه يتقلب

{ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } أي زينب بنت جحش وذلك أنها كانت ذا حدة ولا زالت تفخر على زيد بشرفها ويسمع منها ما يكره فجاء رضي الله تعالى عنه يوماً إلى النبـي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن زينب قد اشتد عليَّ لسانها وأنا أريد أن أطلقها فقال له عليه الصلاة والسلام: { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } { وَٱتَّقِ ٱللَّهَ } في أمرها ولا تطلقها ضراراً وتعللا بتكبرها واشتداد لسانها عليك، وتعدية { أَمْسِكْ } بعلى لتضمينه معنى الحبس. { وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ } عطف على { تَقُولَ } وجوزت الحالية بتقدير وأنت تخفى أو بدونه كما هو ظاهر كلام الزمخشري في مواضع من «كشافه»، والمراد بالموصول على ما أخرج الحكيم الترمذي وغيره عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما ما أوحى الله تعالى به إليه أن زينب سيطلقها زيد ويتزوجها بعد عليه الصلاة والسلام وإلى هذا ذهب أهل التحقيق من المفسرين كالزهري وبكر بن العلاء والقشيري والقاضي أبـي بكر بن العربـي وغيرهم.

{ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ } تخاف من اعتراضهم وقيل: أي تستحي من قولهم: إن محمداً صلى الله عليه وسلم تزوج زوجة ابنه، والمراد بالناس الجنس والمنافقون وهذا عطف على ما تقدم أو حال. وقوله: { وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَٰهُ } في موضع الحال لا غير، والمعنى والله تعالى وحده أحق أن تخشاه في كل أمر فتفعل ما أباحه سبحانه لك وأذن لك فيه، والعتاب عند من سمعت على قوله عليه الصلاة والسلام ذلك مع { أَمْسِكْ } مع علمه بأنه سيطلقها ويتزوجها هو صلى الله عليه وسلم بعده وهو عتاب على ترك الأولى. وكان الأولى في مثل ذلك أن يصمت عليه الصلاة والسلام أو يفوض الأمر إلى رأي زيد رضي الله تعالى عنه. وأخرج جماعة عن قتادة أنه صلى الله عليه وسلم كان يخفي إرادة طلاقها ويخشى قالة الناس إن أمره بطلاقها وأنه عليه الصلاة والسلام قال له: { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ } وهو يحب طلاقها، والعتاب عليه على إظهار ما ينافي الإضمار، وقد رد ذلك القاضي عياض في «الشفاء» وقال: لا تَسْتَرِب في تنزيه النبـي صلى الله عليه وسلم عن هذا الظاهر وأنه يأمر زيداً بإمساكها وهو يحب تطليقه إياها كما ذكره جماعة من المفسرين إلى آخر ما قال.

وذكر بعضهم أن إرادته صلى الله عليه وسلم طلاقها وحبه إياه كان مجرد خطوره بباله الشريف بعد العلم بأنه يريد مفارقتها، وليس هناك حسد منه عليه الصلاة والسلام وحاشاه له عليها فلا محذور، والأسلم ما ذكرناه عن زيد العابدين رضي الله تعالى عنه والجمهور، وحاصل العتاب لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه مبدي ما أخفاه عليه الصلاة والسلام ولم يظهر غير تزويجها منه فقال سبحانه: { زَوَّجْنَـٰكَهَا } فلو كان المضمر محبتها وإرادة طلاقها ونحو ذلك لأظهره جل وعلا.

وللقصاص في هذه القصة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيز القبول. منه ما أخرجه ابن سعد والحاكم عن محمد بن يحيـى بن حبان أنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى بيت زيد فلم يجده وعرضت / زينب عليه دخول البيت فأبى أن يدخل وانصرف راجعاً يتكلم بكلام لم تفهم منه سوى سبحان الله العظيم سبحان مصرف القلوب فجاء زيد فأخبرته بما كان فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: بلغني يا رسول الله أنك جئت منزلي فهلا دخلت يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها فقال عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك زوجك واتق الله فما استطاع زيد إليها سبيلاً بعد ففارقها؛ وفي «تفسير علي بن إبراهيم» [الحوفي] أنه صلى الله عليه وسلم أتى بيت زيد فرأى زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيباً بفهر لها فلما نظر إليها قال: سبحان خالق النور تبارك الله أحسن الخالقين فرجع فجاء زيد فأخبرته الخبر فقال لها: لعلك وقعت في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل لك أن أطلقك حتى يتزوجك رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت: أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أريد أن أطلق زينب فأجابه بما قص الله تعالى إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع.

وفي «شرح المواقف» أن هذه القصة مما يجب صيانة النبـي صلى الله عليه وسلم عن مثله فإن صحت فميل القلب غير مقدور مع ما فيه من الابتلاء لهما، والظاهر أن الله تعالى لما أراد نسخ تحريم زوجة المتبنى أوحى إليه عليه الصلاة والسلام أن يتزوج زينب إذا طلقها زيد فلم يبادر له صلى الله عليه وسلم مخافة طعن الأعداء فعوتب عليه، وهو توجيه وجيه قاله الخفاجي عليه الرحمة ثم قال: إن القصة شبيهة بقصة داود عليه السلام لا سيما وقد كان النزول عن الزوجة في صدر الهجرة جارياً بينهم من غير حرج فيه انتهى، وأبعد بعضهم فزعم أن { وَتُخْفِي } الخ خطاب كسابقه من الله عز وجل أو من أن النبـي صلى الله عليه وسلم لزيد فإنه أخفى الميل إليها وأظهر الرغبة عنها لما وقع في قلبه أن النبـي صلى الله عليه وسلم يود أن تكون من نسائه.

هذا وفي قوله تعالى: { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } وصول الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المجرور وهما لشخص واحد فهو كقوله:

هون عليك ودع عنك نهياً صيح في حجراته

وذكروا في مثل هذا التركيب أن على وعن اسمان ولا يجوز أن يكونا حرفين لامتناع فكر فيك وأعين بك بل هذا مما تكون فيه النفس أي فكر في نفسك وأعين بنفسك، والحق عندي جواز ذلك التركيب مع حرفية على وعن.

{ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً } أي طلقها كما روي عن قتادة وهو كناية عن ذلك مثل لا حاجة لي فيك، ومعنى الوطر الحاجة وقيدها الراغب بالمهمة، وقال أبو عبيدة: هو كالأدب وأنشد للربيع بن ضبع:

ودعنا قبل أن نودعه لما قضى من شبابنا وطراً

ويفسر الأدب بالحاجة الشديدة المقتضية للاحتيال في دفعها ويستعمل تارة في الحاجة المفردة وأخرى في الاحتيال وإن لم تكن حاجة، وقال المبرد: هو الشهوة والمحبة يقال: ما قضيت من لقائك وطراً أي ما استمتعت منك حتى تنتهي نفسي وأنشد:

وكيف ثوائي بالمدينة بعدما قضى وطراً منها جميل بن معمر

وعن ابن عباس تفسير الوطر هنا بالجماع، والمراد لم يبق له بها حاجة الجماع وطلقها، وفي «البحر» نقلاً عن بعضهم أنه رضي الله تعالى عنه أنه لم يتمكن من الاستمتاع بها، وروى أبو عصمة نوح بن أبـي مريم بإسناد رفعه إليها أنها قالت: ما كنت أمتنع منه غير أن الله عز وجل منعني منه، وروي أنه كان يتورم ذلك منه حين يريد أن يقربها فيمتنع. قيل: ولا يخفى أنه على هذا يحسن جداً جعل قضاء الوطر كناية عن الطلاق فتأمل، وفي الكلام تقدير / أي فلما قضى زيد منها وطراً وانقضت عدتها، وقيل: إن قضاء الوطر يشعر بانقضاء العدة لأن القضاء الفراغ من الشيء على التمام فكأنه قيل: فلما قضى زيد حاجته من نكاحها فطلقا وانقضت عدتها فلم يكن في قلبه ميل إليها ولا وحشة من فراقها.

{ زَوَّجْنَـٰكَهَا } أي جعلناها زوجة لك بلا واسطة عقد أصالة أو وكالة، فقد صح من حديث البخاري والترمذي أنها رضي الله تعالى عنها كانت تفخر على أزواج النبـي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات، وأخرج ابن جرير عن الشعبـي قال: كانت تقول للنبـي عليه الصلاة والسلام إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن إن جدي وجدك واحد وإني أنكحك الله إياي من السماء وإن السفير لجبريل عليه السلام، ولعلها أرادت سفارته عليه السلام بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وسلم وإلا فالسفير بينه عليه الصلاة والسلام وبينها كان زيداً. أخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: اذهب فاذكرها علي فانطلق قال: فلما رأيتها عظمت في صدري فقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربـي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليها بغير إذن. ومن حديث أخرجه الطبراني والبيهقي في «سننه» وابن عساكر من طريق ابن زيد الأسدي عن مذكور مولى زينب قالت طلقني زيد فبت طلاقي فلما انقضت عدتي لم أشعر إلا والنبـي عليه الصلاة والسلام قد دخل علي وأنا مكشوفة الشعر فقلت: هذا من السماء دخلت يا رسول الله بلا خطبة ولا شهادة فقال: الله تعالى المزوج وجبريل الشاهد، ولا يخفى أن هذا بظاهره يخالف ما تقدم من الحديث والمعول على ذاك، وقيل: المراد بزوجناكها أمرناك بتزوجها.

وقرأ علي وابناه ريحانتا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين وابنه محمد بن الحنفية وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهم أجمعين { زوجتكها } بتاء الضمير للمتكلم وحده.

{ لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ } أي ضيق وقيل إثم، وفسره بهما بعضهم كالطبرسي بناء على جواز استعمال المشترك في معنيه مطلقاً كما ذهب إليه الشافعية أو في النفي كما ذهب إليه العلامة ابن الهمام من الحنفية { فِى أَزْوَاجِ } أي في حق تزوج أزواج { أَدْعِيَائِهِمْ } الذين تبنوهم { إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } أي إذا طلقهن الأدعياء وانقضت عدتهن فإن لهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، واستدل بهذا على أن ما ثبت له صلى الله عليه وسلم من الأحكام ثابت لأمته إلا ما علم أنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام بدليل، وتمام الكلام في المسألة مذكور في الأصول، والمراد بالحكم هٰهنا على ما سمعت أولاً مطلق تزوج زوجات الأدعياء وهو على ما قيل ظاهر.

{ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ } أي ما يريد تكوينه من الأمور أو مأموره الحاصل بكن { مَفْعُولاً } مكوناً لا محالة، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من تزويج زينب رضي الله تعالى عنها.