التفاسير

< >
عرض

مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ
٤
-الأحزاب

روح المعاني

{ مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ } أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبـي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء في «المختارة» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قام النبـي صلى الله عليه وسلم يوماً يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترى أن له قلبين قلباً معكم وقلباً معهم فنزلت، وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة فسها فيها فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون فأكثروا فقالوا: إن له قلبين ألم تسمعوا إلى قوله وكلامه في الصلاة إن له قلباً معكم وقلباً مع أصحابه فنزلت، وقال مقاتل في «تفسيره» وإسماعيل بن أبـي زياد الشامي وغيرهما: نزلت في أبـي معمر الفهري كان أهل مكة يقولون: له قلبان من قوة حفظه وكانت العرب تزعم أن كل لبيب أريب له قلبان حقيقة، وأبو معمر هذا أشتهر بين أهل مكة بذي القلبين وهو على ما في «الإصابة» جميل بن أسيد مصغر الأسد، وقيل: ابن أسد مكبراً وسماه ابن دريد عبد الله بن وهب، وقيل: إن ذا القلبين هو جميل بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة ابن جمح الجمحي وهو المعني بقوله: وكيف ثوائى البيت وقد تقدم في تفسير سورة لقمان، والمعول على ما في «الإصابة»، وحكي أنه كان يقول: إن لي قلبين أفهم بأحدهما / أكثر مما يفهم محمد صلى الله عليه وسلم فروي أنه انهزم يوم بدر فمر بأبـي سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له أبو سفيان: ما فعل الناس؟ فقال: هم ما بين مقتول وهارب فقال له: ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلا أنهما في رجلي فأكذب الله تعالى قوله وقولهم. وعن الحسن أنه كان جماعة يقول الواحد منهم: نفس تأمرني ونفس تنهاني فنزلت.

والجعل بمعنى الخلق و(من) سيف خطيب، والمراد ما خلق سبحانه لأحد أو لذي قلب من الحيوان مطلقاً قلبين فخصوص الرجل ليس بمقصود وتخصيصه بالذكر لكمال لزوم الحياة فيه فإذا لم يكن ذلك له فكيف بغيره من الإناث، وأما الصبيان فمآلهم إلى الرجولية، وقوله سبحانه: { فِى جَوْفِهِ } للتأكيد والتصوير كالقلوب في قوله تعالى: { وَلَـٰكِنِ تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ } [الحج: 46] وذكر في بيان عدم جعله تعالى قلبين في جوف بناء على ما هو الظاهر من أن المراد بالقلب المضغة الصنوبرية أن النفس الناطقة وكذا الحيوانية لا بد لها من متعلق ومتعلقها هو الروح وهو جسم لطيف بخاري يتكون من ألطف أجزاء الأغذية لأن شد الأعصاب يبطل قوى الحس والحركة عما وراء موضع الشد مما لا يلي جهة الدماغ والشد لا يمنع إلا نفوذ الأجسام، والتجارب الطبية أيضاً شاهدة بذلك، وحيث إن النفس واحدة فلا بد من عضو واحد يكون تعلقها به أولاً ثم بسائر الأعضاء بواسطته. وقد ذكر غير واحد أن أول عضو يخلق هو القلب فإنه المجمع للروح فيجب أن يكون التعلق أولاً به ثم بواسطته بالدماغ والكبد وبسائر الأعضاء فمنبع القوى بأسرها منه وذلك يمنع التعدد إذ لو تعدد بأن كان هناك قلبان لزم أن يكون كل منهما أصلاً للقوى وغير أصل لها أو توارد علتين على معلول واحد، ولا يخفى على من له قلب أن هذا مع ابتنائه على مقدمات لا تكاد تثبت عند أكثر الإسلامين من السلف الصالح والخلف المتأخرين ولو بشق الأنفس أمر إقناعي لا برهان قطعي، على أن للفلسفي أيضاً له فيه مقالاً، وقد يفسر القلب بالنفس بناء على أن سبب النزول ما روي عن الحسن إطلاقاً للمتعلق على المتعلق وقد بينوا وحدة النفس وأنه لا يجوز أن تتعلق نفسان فأكثر ببدن بما يطول ذكره، وللبحث فيه مجال فليراجع، ثم إن هذا التفسير بناء على أن سبب النزول ما ذكر غير متعين بل يجوز تفسير القلب عليه بما هو الظاهر المتبادر أيضاً، وحيث أن القلب متعلق النفس يكون نفي جعل القلبين دالاً على نفي النفسين فتدبر.

{ وَمَا جَعَلَ أَزْوٰجَكُمُ ٱللاَّئِى تُظَـٰهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَـٰتِكُمْ } إبطال لما كان في الجاهلية من إجراء أحكام الأمومة على المظاهر منها، والظهار لغة مصدر ظاهر وهو مفاعلة من الظهر ويستعمل في معان مختلفة راجعة إليه معنى ولفظاً بحسب اختلاف الأغراض فيقال ظاهرته إذا قابلت ظهرك بظهره حقيقة وكذا إذا غايظته باعتبار أن المغايظة تقتضي هذه المقابلة، وظاهرته إذا نصرته باعتبار أنه يقال: قوى ظهره إذا نصره وظاهرت بين ثوبين إذا لبست أحدهما فوق الآخر على اعتبار جعل ما يلي به كل منهما الآخر ظهراً للثوب، ويقال: ظاهر من زوجته إذ قال لها أنت علي كظهر أمي نظير لبـى إذ قال لبيك وأفف إذ قال أفٍ، وكون لفظ الظهر في بعض هذه التراكيب مجازاً لا يمنع الاشتقاق منه ويكون المشتق مجازاً أيضاً والمراد منه هنا المعنى الأخير، وكان ذلك طلاقاً منهم. وإنما عدي بمن مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى التباعد ونحوه مما فيه معنى المجانبة ويتعدى بمن، والظهر في ذلك مجاز على ما قيل عن البطن لأنه إنما يركب البطن فقوله: كظهر أمي بمعنى كبطنها بعلاقة المجاورة ولأنه / عموده، قال ابن الهمام: لكن لا يظهر ما هو الصارف عن الحقيقة من النكات، وقال الأزهري معناه: خصوا الظهر لأنه محل الركوب والمرأة تركب إذا غشيت فهو كناية تلويحية انتقل من الظهر إلى المركوب ومنه إلى المغشي، والمعنى أنت محرمة عليَّ لا تركبين كما لا يركب ظهر الأم وقيل: خص الظهر لأن إتيان المرأة من ظهرها في قبلها كان حراماً عندهم فإتيان أمه من ظهرها أحرم فكثر التغليظ، وقيل: كنوا بالظهر عن البطن لأنهم يستقبحون ذكر الفرج وما يقرب منه سيما في الأم وما شبه بها، وليس بذاك.

وهو في الشرع تشبيه الزوجة أو جزء منها شائع أو معبر به عن الكل بما لا يحل النظر إليه من المحرمة على التأبيد ولو برضاع أو صهرية وزاد في «النهاية» قيد الاتفاق ليخرج التشبيه بما لا يحل النظر إليه ممن اختلف في تحريمها كالبنت من الزنا وتحقيق الحق في ذلك في «فتح القدير»، وخص باسم الظهار تغليباً للظهر لأنه كان الأصل في استعمالهم وشرطه في المرأة كونها زوجة وفي الرجل كونه من أهل الكفارة، وركنه اللفظ المشتمل على ذلك التشبيه، وحكمه حرمة الوطء ودواعيه إلى وجود الكفارة، وتمام الكلام فيه في كتب الفروع، وسيأتي إن شاء الله تعالى بعض ذلك في محله.

وقرأ قالون وقنبل هنا وفي المجادلة والطلاق { اللاء } بالهمز من غير ياء، وورش بياء مختلسة الكسرة، والبزي وأبو عمرو { اللاي } بياء ساكنة بدلاً من الهمزة وهو بدل مسموع لا مقيس وهي لغة قريش، وقرأ أهل الكوفة غير عاصم { تظـاهرون } بفتح التاء وتخفيف الظاء وأصله تتظاهرون فحذفت إحدى التاءين. وقرأ ابن عامر { تظـاهرون } بفتح التاء وتشديد الظاء وأصله كما تقدم إلا أنه أدغمت التاء الثانية في الظاء. وقرأ الحسن { تظهرون } بضم التاء وفتح الظاء المخففة وشد الهاء المكسورة مضارع ظهر بتشديد الهاء بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد، وقرأ ابن وثاب فيما نقل ابن عطية { تظهرون } بضم التاء وسكون الظاء وكسر الهاء مضارع أظهر، وقرأ هارون عن أبـي عمرو و { تظهرون } بفتح التاء والهاء وسكون الظاء مضارع ظهر بتخفيف الهاء، وفي مصحف أبـي { تتظهرون } بتاءين ومعنى الكل واحد.

{ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ } إبطال لما كان في الجاهلية أيضاً وصدر من الإسلام من أنه إذا تبنى الرجل ولد غيره أجريت أحكام البنوة عليه، وقد تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة زيد بن حارثة والخطاب عامر بن ربيعة وأبو حذيفة مولاه سالماً إلى غير ذلك، وأخرج ابن أبـي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد أن قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ } الخ، نزلت في زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه. و { أدعياء } جمع دعي وهو الذي يدعي ابناً فهو فعيل بمعنى مفعول وقياسه أن يجمع على فعلي كجريح وجرحى لا على أفعلاء فإن الجمع عليه قياس فعيل المعتل اللام بمعنى فاعل كتقي وأتقياء فكأنه شبه به في اللفظ فحمل عليه وجمع جمعه كما قالوا في أسير وقتيل أسراء وقتلاء، وقيل: إن هذا الجمع مقيس في المعتل مطلقاً، وفيه نظر.

{ ذٰلِكُمْ } قيل: إشارة إلى ما يفهم من الجمل الثلاث من أنه قد يكون قلبان في جوف والظهار والادعاء. وقيل: إلى ما يفهم من الأخيرتين، وقيل: إلى ما يفهم من الأخيرة { قَوْلُكُم بِأَفْوٰهِكُمْ } فقط من غير أن يكون له مصداق وحقيقة في الواقع ونفس الأمر فإذن هو بمعزل عن القبول أو استتباع الأحكام كما زعمتم. / { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ } الثابت المحقق في نفس الأمر { وَهُوَ يَهْدِى ٱلسَّبِيلَ } أي سبيل الحق فدعوا قولكم وخذوا بقوله عز وجل. وقرأ قتادة على ما في «البحر» { يهدى } بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال، وفي «الكشاف» أنه قرأ { وَهُوَ ٱلَّذِى يَهْدِى ٱلسَّبِيلَ }.