التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّـلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِـيلاً
٤٨
-الأحزاب

روح المعاني

{ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ } نهى عن مداراتهم في أمر الدعوة ولين الجانب في التبليغ والمسامحة في الإنذاء كني عن ذلك بالنهي عن طاعتهم مبالغة في النهي والتنفير عن المنهي عنه بنظمها في سلكها وتصويره بصورتها، وحمل غير واحد النهي على التهييج والإلهاب من حيث أنه صلى الله عليه وسلم لم يطعهم حتى ينهى، وجعله بعضهم من باب إياك أعني واسمعي يا جارة فلا تغفل.

{ وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي لا تبال بإيذائهم إياك بسبب إنذارك إياهم واصبر على ما ينالك منهم قاله قتادة فأذاهم مصدر مضاف للفاعل، وقال أبو حيان: الظاهر أنه مصدر مضاف للمفعول لما نهي صلى الله عليه وسلم عن طاعتهم أمر بترك إيذائهم وعقوبتهم ونسخ منه ما يخص الكافرين بآية السيف وروي نحوه عن مجاهد والكلبـي والأول أولى { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } في كل ما تأتي وتذر من الشؤون التي من جملتها هذا الشأن فإنه / عز وجل يكفيكهم { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } موكولاً إليه الأمور في كل الأحوال، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتعليل الحكم وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي.

ولما وصف: صلى الله عليه وسلم بنعوت خمسة قوبل كل واحد منها بخطاب يناسبه خلا أنه لم يذكر ما قابل الشاهد صريحاً وهو الأمر بالمراقبة ثقة بظهور دلالة المبشر عليه وهو الأمر بالتبشير حسبما ذكر آنفاً وقابل النذير بالنهي عن مداراة الكافرين والمنافقين والمسامحة في إنذارهم وقوبل الداعي بإذنه بالأمر بالتوكل عليه من حيث أنه عبارة عن الاستمداد منه تعالى والاستعانة به عز وجل وقوبل السراج المنير بالاكتفاء به تعالى فإن من أيده الله تعالى بالقوة القدسية ورشحه للنبوة وجعله برهاناً نيراً يهدي الخلق من ظلمات الغي إلى نور الرشاد حقيق بأن يكتفى به تعالى عمن سواه، وجعل الزمخشري مقابل الشاهد { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأحزاب: 47] ومقابل الإعراض عن الكافرين والمنافقين المبشر أعني المؤمنين وتكلف في ذلك.

وقال الطيبـي طيب الله تعالى ثراه: نظير هذه الآية ما روى البخاري والإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال: والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبـي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للمؤمنين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء ويفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفا، وروى الدارمي نحوه عن عبد الله بن سلام فقوله: حرزاً للمؤمنين مقابل لقوله تعالى: { وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ } [الأحزاب: 46] فإن دعوته صلى الله عليه وسلم إنما حصلت فائدتها فيمن وفقه الله تعالى بتيسيره وتسهيله فلذلك أمنوا من مكاره الدنيا وشدائد الآخرة فكان صلوات الله تعالى وسلامه عليه بهذا الاعتبار حرزاً لهم، وقوله سميتك المتوكل الخ مقابل لقوله: { { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } [الأحزاب: 46] فعلم أن قوله تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } مناسب لقوله تعالى: { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } فإن السراج مضيء في نفسه ومنور لغيره فبكونه متوكلاً على الله تعالى يكون كاملاً في نفسه فهو مناسب بقوله: أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل إلى قوله: يعفو ويصفح وكونه منيراً يفيض الله تعالى عليه يكون مكملاً لغيره وهو مناسب لقوله: حتى يقيم به الملة العوجاء الخ ثم قال: ويمكن أن ينزل المراتب على لسان أهل العرفان فقوله تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً } [الأحزاب: 45] هو مقام الشريعة ودعوة الناس إلى الإيمان وترك الكفرة ونتيجة الإعراض عما سوى الله تعالى والأخذ في السير والسلوك والالتجاء إلى حريم لطفه تعالى والتوكل عليه عز وجل وقوله، سبحانه: { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } هو مقام الحقيقة ونتيجته فناء السالك وقيامه بقيوميته تعالى اهـ، ولا يخفى تكلف ما قرره في الحديث والله تعالى أعلم بمراده.