التفاسير

< >
عرض

تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً
٥١
-الأحزاب

روح المعاني

{ تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ } أي تؤخر من تشاء من نسائك وتترك مضاجعتها { وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء } وتضم إليك من تشاء منهن وتضاجعها، وروي هذا عن قتادة. وعن ابن عباس والحسن أي تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء، وقال بعضهم: الإرجاء والإيواء / لإطلاقهما يتناولان ما في التفسيرين وما ذكر فيهما فإنما هو من باب التمثيل ولا يخلو عن حسن، وفي رواية عن الحسن أن ضمير { مِنْهُنَّ } لنساء الأمة والمعنى تترك نكاح من تشاء من نساء أمتك فلا تنكح وتنكح منهن من تشاء. وقال: كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره أن يخطبها حتى يتركها وعن زيد بن أسلم والطبري أنه للواهبات أنفسهن أي تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء منهن فلا تقبلها، وعن الشعبـي ما يقتضيه، فقد أخرج ابن سعد والبيهقي في «السنن» وغيرهما عنه قال: كن نساء وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن فلم يقربن حتى توفي عليه الصلاة والسلام ولم ينكحن بعده، منهن أم شريك فذلك قوله تعالى: { تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء } ويشهد لما تقدم من رجوعه إلى النساء ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبـي حاتم وغيرهم عن أبـي رزين قال: هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق من نسائه فلما رأين ذلك أتينه فقلن لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت فأنزل الله تعالى الآية فأرجأ منهن نسوة وكان ممن أرجأ ميمونة وجويرية وأم حبيبة وصفية وسودة وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب رضي الله تعالى عنهن أجمعين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر { ترجىء } بالهمزة وهو عند الزجاج أجود والمعنى واحد.

{ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ } أي طلبت { مِمَّنْ عَزَلْتَ } أي تجنبت وحمل هذا التجنب على ما كان بطلاق، و(من) شرطية منصوبة بما بعدها، وقوله تعالى: { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } جوابها أي من طلبتها ممن طلقت فليس عليك إثم في طلبها أو موصولة والجملة خبرها أي والتي طلبتها لا جناح عليك في طلبها والمراد نفي أن يكون عليه عليه الصلاة والسلام إثم في إرجاع المطلقة، وقيل (من) موصولة معطوفة على { مَن تَشَاء } الثاني والمراد به غير المطلقة ومعنى فلا جناح عليك فلا إثم عليك في شيء مما ذكر من الإرجاء والإيواء والابتغاء والمراد تفويض ذلك إلى مشيئته صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: المراد به ما كان بترك مضاجعة بدون طلاق.

والمقصود من الآية بيان أن له صلى الله عليه وسلم ترك مضاجعة من شاء من نسائه ومضاجعة من شاء منهن أي ممن لم يكن أرجأها وترك مضاجعتها والرجوع إلى مضاجعة من ترك مضاجعتها واعتزلها فمن عزل هي المرجأة، وأفاد صاحب «الكشاف» أن الآية متضمنة قسمة جامعة لما هو الفرض لأنه صلى الله عليه وسلم إما أن يطلق وأما أن يمسك وإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أو لم يقسم وإذا طلق وعزل فإما أن يخلي المعزولة لا يبتيغها أو يبتغيها وانفهام الطلاق والإمساك بأقسامه بواسطة إطلاق الإرجاء والإيواء في قوله تعالى: { تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى } وانفهام ابتغاء المعزولة من قوله سبحانه: { وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ } الخ ومتى فهم أن لا جناح في ابتغاء المعزولة بالطلاق وردها إلى النكاح فهم منه أن رفع النكاح في عدم ردها من طريق الأولى ولقد أجاد فيما أفاد.

وجوز بعضهم أن يكون (من) مبتدأ وفي الكلام معطوف وخبر محذوفان أي ومن ابتغيت ممن عزلت ومن لم تعزل سواء، وقوله سبحانه: { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } تأكيد لذلك ولا يخفى بعده وتعسفه، وقال الحسن: معنى ـ ومن ابتغيت ـ الخ من مات من نسائك اللواتي عندك أو خليت سبيلها فلا جناح عليك في أن تستبدل عوضها من اللاتي أحللت لك فلا تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك كذا في «البحر»، وكأنه جعل (من) للبدل كالتي في قوله تعالى: { أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلأَخِرَةِ } [التوبة: 38] ومن عزلت شاملاً لمن ماتت ومن طلقت وكلاهما بعيد وثانيهما: / أبعد من أولهما بكثير ومثله اعتبار ما اعتبره من القيود وبالجملة هو قول تبعد نسبته إلى الحسن، وأبعد من ذلك نسبته إلى ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما في «الدر المنثور».

{ ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا ءاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } أي تفويض الأمر إلى مشيئتك أقرب إلى قرة عيونهن وسرورهن ورضاهن جميعاً لأنه حكم كلهن فيه سواء ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلاً منك وإن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله تعالى فتطمئن به نفوسهن، وروي هذا عن قتادة، والمراد بما آتيتهن عليه ما صنعت معهن فيتناول ترك المضاجعة والقسم، وعن ابن عباس ومجاهد أن المعنى أنهن إذا علمن أن لك ردهن إلى فراشك بعد ما اعتزلتهن قرت أعينهن ولم يحزن ويرضين بما تفعله من التسوية والتفضيل لأنهن يعلمن أنك لم تطلقهن، وظاهره جعل المشار إليه العلم بأن له صلى الله عليه وسلم الإيواء، وأظهر منه في ذلك قول الجبائي ذلك العلم منهن بأنك إذا عزلت واحدة كان لك أن تؤويها بعد ذلك أدنى لسرورهن وقرة أعينهن. وقال بعض الأجلة: كون الإشارة إلى التفويض أنسب لفظاً لأن ذلك للبعيد وكونها إلى الإيواء أنسب معنى لأن قرة عيونهن بالذات إنما هي بالإيواء فلا تغفل، والأعين جمع قلة وأريد به هٰهنا جمع الكثرة وكأن اختياره لأنه أوفق بكمية الأزواج.

وقرأ ابن محيصن { تقر } من أقر وفاعله ضميره صلى الله عليه وسلم و { أَعينهن } بالنصب على المفعولية. وقرىء { تقر } مبنياً للمفعول و(أعينهن) بالرفع نائب الفاعل و { كلهن } بالرفع في جميع ذلك وهو توكيد لنون { يرضين }. وقرأ أبو أُناس جوية بن عائذ { كلهن } بالنصب تأكيداً لضميره في { ءاتيتهن } قال ابن جني: وهذه القراءة راجعة إلى معنى قراءة العامة { كلهن } بضم اللام وذلك أن رضاهن كلهن بما أوتين كلهن على انفرادهن واجتماعهن فالمعنيان إذن واحد إلا أن للرفع معنى وذلك أن فيه إصراحاً من اللفظ بأن يرضين كلهن، والإصراح في القراءة الشاذة إنما هو في إتيانهن وإن كان محصول الحال فيهما واحداً مع التأويل انتهى، وقال الطيبـي: في توكيد الفاعل دون المفعول إظهار لكمال الرضا منهن وإن لم يكن الإيتاء كاملاً سوياً، وفي توكيد المفعول إظهار أنهن مع كمال الإيتاء غير كاملات في الرضا، والأول أبلغ في المدح لأن فيه معنى التتميم وذلك أن المؤكد يرفع إيهام التجوز عن المؤكد انتهى فتأمل.

{ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ } خطاب له صلى الله عليه وسلم ولأزواجه المطهرات على سبيل التغليب. والمراد بما في القلوب عام ويدخل فيه ما يكون في قلوبهن من الرضا بما دبر الله تعالى في حقهن من تفويض الأمر إليه صلى الله عليه وسلم ومقابل ذلك وما في قلبه الشريف عليه الصلاة والسلام من الميل إلى بعضهن دون بعض، والكلام بعث على الاجتهاد في تحسين ما في القلوب، ولعل اعتباره صلى الله عليه وسلم في الخطاب لتطييب قلوبهن، وفي «الكشاف» أن هذا وعيد لمن لم يرض منهن بما دبر الله تعالى من ذلك وفوض سبحانه إلى مشيئة رسوله عليه الصلاة والسلام وبعث على تواطىء قلوبهن والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم وطيب نفسه الكريمة، والظاهر أنه غير قائل بدخوله صلى الله عليه وسلم في الخطاب، وحينئذٍ فإما أن يقول: إنه عام لهن ولسائر المؤمنين وإما أن يقول بأنه خاص بهن ولعله ظاهر كلامه وعليه لا يظهر وجهه التذكير، وربما يقال على الأول: إن المقام غير ظاهر في اقتضاء دخول سائر المؤمنين في الخطاب، وقال ابن عطية: الإشارة بذلك هٰهنا إلى ما في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص ويدخل في المعنى المؤمنون.

وربما يتخيل أن الخطاب لجميع المكلفين والكلام بعث على تحسين / ما في القلوب في شأن ما دبر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في أمر أزواجه ونفي الخواطر الرديئة بأن يظن أن ذاك هو الذي تقتضيه الحكمة وأنه دليل على كمال المحبوبية، ولا يتوهم خلافه فإن بعض الملحدين طعنوا كالنصارى في كثرة تزوجه عليه الصلاة والسلام وكونه في أمر النساء على حال لم يبح لأمته من حل جمع ما فوق الأربع وعدم التقيد بالقسم لهن مثلاً وزعموا أن في ذلك دليلاً على غلبة القوة الشهوية فيه عليه الصلاة والسلام وذلك مناف لتقديس النفس الذي هو من شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فجزموا والعياذ بالله تعالى بنفي نبوته وأن ما فعله صلى الله عليه وسلم لم يكن منه تعالى بل ليس ذلك إلا منه عليه الصلاة والسلام.

ولا يخفى أن قائلي ذلك على كفرهم جهلة بمراتب الكمال صم عن سماع آثاره عليه الصلاة والسلام ومن سبر الأخبار علم أنه صلى الله عليه وسلم أكمل الأنبياء على الإطلاق لغاية كمال بشريته وملكيته وآثار الكمال الأول تزوج ما فوق الأربع والطواف عليهن كلهن في الليلة الواحدة وآثار الكمال الثاني أنه عليه الصلاة والسلام كثيراً ما كان يبيت ويصبح لا يأكل ولا يشرب وهو على غاية من القوة وعدم الاكتراث بترك ذلك وليس لأحد من الأنبياء عليهم السلام اجتماع هذين الكمالين حسب اجتماعهما فيه عليه الصلاة والسلام ولتكثره النساء حكمة دينية جليلة أيضاً وهي نشر أحكام شرعية لا تكاد تعلم إلا بواسطتهن مع تشييد أمر نبوته فإن النساء لا يكدن يحفظن سراً وهن أعلم الناس بخفايا أزواجهن فلو وقف نساؤه عليه الصلاة والسلام على أمر خفي منه يخل بمنصب النبوة لأظهرنه، وكيف يتصور إخفاؤه بينهن مع كثرتهن.

وكل سر جاوز الاثنين شاع

وفي عدم إيجاب القسم عليه عليه الصلاة والسلام تأكيد لذلك كما لا يخفى على المنصف.

{ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً } مبالغاً في العلم فيعلم كل ما يبدى ويخفى { حَلِيماً } مبالغاً في الحلم فلا يعجل سبحانه بمقابلة من يفعل خلاف ما يحب حسبما يقتضيه فعله من عتاب أو عقاب أو فيصفح عما يغلب على القلب من الميول ونحوها.

هذا وفي «البحر» «اتفقت الروايات على أنه عليه الصلاة والسلام كان يعدل بين أزواجه المطهرات في القسمة حتى مات ولم يستعمل شيئاً مما أبيح له ضبطاً لنفسه وأخذاً فالأفضل غير ما جرى لسودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك» وأخرج ابن أبـي حاتم عن ابن شهاب أنه قال لم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجأ منهن شيئاً ولا عزله بعد ما خيرن فاخترنه. وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عائشة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية { تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ } فقيل لها: ما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول له إن كان ذاك إليّ فإني لا أريد أن أوثر عليك أحداً فتأمله مع حكاية الاتفاق السابق والله تعالى الموفق.