التفاسير

< >
عرض

وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ
٥٤
-سبأ

روح المعاني

{ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } قال ابن عباس: هو الرجوع إلى الدنيا، وقال الحسن: هو الإيمان المقبول، وقال قتادة: طاعة الله تعالى، وقال السدي: التوبة، وقال مجاهد: الأهل والمال والولد. وقيل أي حيل بين الجيش والمؤمنين بالخسف بالجيش أو بينهم وبين تخريب الكعبة أو بينهم وبين النجاة من العذاب أو بينهم وبين نعيم الدنيا ولذتها وروي ذلك عن مجاهد أيضاً و { حيل } مبني للمجهول ونائب الفاعل كما قال أبو حيان ضمير المصدر أي وحيل هو أي الحول؛ وحاصله وقعت الحيلولة ولإضماره لم يكن مصدراً مؤكداً فناب مناب الفاعل، وعلى ذلك يخرج قوله:

وقالت متى يبخل عليك ويعتلل يسؤك وإن يكشف غرامك تدرب

أي يعتلل هو أي الاعتلال، وقال الحوفي: قام الظرف مقام الفاعل، وتعقبه في «البحر» بأنه لو كان كذلك لكان مرفوعاً والإضافة إلى الضمير لا تسوغ البناء وإلا لساغ جاء غلامك بالفتح ولا يقوله أحد، نعم للبناء للإضافة إلى المبنى مواضع أحكمت في النحو، وماذا يقول الحوفي في قوله:

وقد حيل بين العير والنزوان

فإنه نصب بين مع إضافتها إلى معرب. وقرأ ابن عامر والكسائي بإشمام الضم للحاء.

{ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَـٰعِهِم مّن قَبْلُ } أي بأشباههم من كفرة الأمم الدارجة، و { مِن قَبْلُ } متعلق بأشياعهم على أن المراد من اتصف بصفتهم من قبل أي في الزمان الأول، ويرجحه أن ما يفعل بجميعهم في الآخرة إنما هو في وقت واحد أو متعلق بفعل إذا كانت الحيلولة في الدنيا، وعن الضحاك أن المراد بأشياعهم أصحاب الفيل، والظاهر أنه جعل الآية في السفياني ومن معه.

/ { إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكّ مُّرِيبِ } أي موقع في ريبة على أنه من أرابه أوقعه في ريبة وتهمة أو ذي ريبة من أراب الرجل صار ذا ريبة فإما أن يكون قد شبه الشك بإنسان يصح أن يكون مريباً على وجه الاستعارة المكنية التخييلية أو يكون الإسناد مجازياً أسند فيه ما لصاحب الشك للشك مبالغة كما يقال شعر شاعر، وكأنه من هنا قال ابن عطية: الشك المريب أقوى ما يكون من الشك، وضمير الجمع للإشباع وقيل: لأولئك المحدث عنهم والله تعالى أعلم.

ومن باب الإشارة في بعض آيات السورة ما قيل: { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ } أشير بالجبال إلى عالم الملك وبالطير إلى عالم الملكوت، وقد ذكروا أنه إذا تمكن الذكر سرى في جميع أجزاء البدن فيسمع الذاكر كل جزء منه ذاكراً فإذا ترقى حاله يسمع كل ما في عالم الملك كذلك فإذا ترقى يسمع كل ما في الوجود كذلك { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [الإسراء: 44] { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } [سبأ: 10] القلب { أَنِ ٱعْمَلْ سَـٰبِغَـٰتٍ } وهي الحكم البالغة التي تظهر من القلب على اللسان { وَقَدّرْ فِى ٱلسَّرْدِ } [سبأ: 11] أي في سرد الحديث بأن تتكلم بالحكمة على قدر ما يتحمله عقل مخاطبك، وقد ورد "كلموا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم" . ومن هنا يصعب الجواب عمن تكلم من المتصوفة بما ينكره أكثر من يسمعه من العلماء وبه ضل كثير من الناس { وَلِسُلَيْمَـٰنَ ٱلرّيحَ } ريح العناية { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } فكان يتصرف بالهمة وقذف الأنوار في قلوب متبعيه من مسافة شهر { { وَمِنَ ٱلْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ } [سبأ: 12] إشارة إلى قوة باطنه حيث انقاد له من جبل على المخالفة وفعل الشرور { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13] وهو من شكره بالأحوال أعني التخلق بأخلاق الله تعالى { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } [سبأ: 14] فيه إشارة إلى أن الضعيف قد يفيد القوي علماً { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا } وهي مقامات أهل الباطن من العارفين { قُرًى ظَـٰهِرَةً } وهي مقامات أهل الظاهر من الناسكين { سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ } في ليالي البشرية { وأَياماً } في أيام الروحانية { ءامِنِينَ } [سبأ: 18] في خفارة الشريعة. وقال بعض الفرقة الجديدة الكشفية: القرى المبارك فيها الأئمة رضي الله تعالى عنهم والقرى الظاهرة الدعاة إليهم والسفراء بينهم وبين شيعتهم { وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بميلهم إلى الدنيا وترك السير لسوء استعدادهم { حَتَّىٰ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } [سبأ: 23] فيه إشارة إلى أن الهيبة تمنع الفهم { وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ } أي ما أخرجناك من العدم إلى الوجود { إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ } الأولين والآخرين { بَشِيراً وَنَذِيراً } وهذا حاله عليه الصلاة والسلام في عالم الأرواح وفي عالم الأجساد { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [سبأ: 28] إذ لا نور لهم يهتدون به { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُنَا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـٰذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُكُمْ } [سبأ: 43] هؤلاء قطاع الطريق على عباد الله تعالى ومثلهم المنكرون على أولياء الله تعالى الذين ينفرون الناس عن الاعتقاد بهم واتباعهم { قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِى } إن النفس لأمارة بالسوء { وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى } [سبأ: 50] من القرآن وفيه إشارة إلى أنه نور لا يبقى معه ديجور أو مراتب الاهتداء به متفاوتة حسب تفاوت الفهم الناشىء من تفاوت صفاء الباطن وطهارته، وقد ورد أن للقرآن ظاهراً وباطناً ولا يكاد يصل الشخص إلى باطنه لا بتطهير باطنه كما يرمز إليه قوله تعالى: { { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة: 79] نسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهم ظاهره وباطنه إلى ما شاء من البطون فإنه جل وعلا القادر الذي يقول للشيء كن فيكون.