التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ
٢٧
-فاطر

روح المعاني

{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء } الخ استئناف مسوق على ما يخطر بالبال لتقرير ما أشعر به قوله تعالى: { ثُمَّ أَخَذْتُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [فاطر: 26] من عظيم قدرته عز وجل. وقلل شيخ الإسلام: هو لتقرير ما قبله من اختلاف [أحوال] الناس ببيان أن الاختلاف والتفاوت أمر مطرد في جميع المخلوقات من النبات والجماد والحيوان. وقال أبو حيان: تقرير لوحدانيته تعالى بأدلة سماوية وأرضية إثر تقريرها بأمثال ضربها جل شأنه، وهذا / كما ترى، والاستفهام للتقرير والرؤية قلبية لأن إنزال المطر وإن كان مدركاً بالبصر لكن إنزال الله تعالى إياه كيس كذلك، والخطاب عام أي ألم تعلم أن الله تعالى أنزل من جهة العلو ماء.

{ فَأَخْرَجْنَا بِهِ } أي بذلك الماء على أنه سبب عادي للإخراج، وقيل أي أخرجنا عنده، والالتفات لإظهار كمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبـىء عن كمال القدرة والحكمة { ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } أي أنواعها من التفاح والرمان والعنب والتين وغيرها مما لا يحصر، وهذا كما يقال فلان أتى بألوان من الأحاديث وقدم كذا لوناً من الطعام، واختلاف كل نوع بتعدد أصنافه كما في التفاح فإن له أصنافاً متغايرة لذة وهيئة وكذا في سائر الثمرات ولا يكاد يوجد نوع منها إلا وهو ذو أصناف متغايرة، ويجوز أن يراد اختلاف كل نوع باختلاف أفراده.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه حمل الألوان على معناها المعروف واختلافها بالصفرة والحمرة والخضرة وغيرها، وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً وهو الأوفق لما في قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ } وهو إما عطف على ما قبله بحسب المعنى أو حال وكونه استئنافاً مع ارتباطه بما قبله غير ظاهر، و { جُدَدٌ } جمع جدة بالضم وهي الطريقة من جده إذا قطعه. وقال أبو الفضل: هي من الطرائق ما يخالف لونه لون ما يليه ومنه جدة الحمار للخط الذي في وسط ظهره يخالف لونه، وسأل ابن الأزرق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الجدد فقال طرائق طريقة بيضاء وطريقة خضراء، وأنشد قول الشاعر:

قد غادر السبع في صفحاتها جدداً كأنها طرق لاحت على أكم

والكلام على تقدير مضاف إن لم تقصد المبالغة لأن الجبال ليست نفس الطرائق أي ذو جدد.

وقرأ الزهري { جدد } بضمتين جمع جديدة كسفينة وسفن وهي بمعنى جدة. وقال صاحب «اللوامح» هو جمع جديد بمعنى آثار جديدة واضحة الألوان. وقال أبو عبيدة: لا مدخل لمعنى الجديدة في هذه الآية. ولعل من يقول بتجدد حدوث الجبال وتكونها من مياه تنبع من الأرض وتتحجر أولاً فأولاً ثم تنبع من موضع قريب مما تحجر فتتحجر أيضاً وهكذا حتى يحصل جبل لا يأبـى حمل الآية على هذه القراءة على ما ذكر.

والظاهر من الآيات والأخبار أن الجبال أحدثها الله تعالى بعيد خلق الأرض لئلا تميد بسكانها، والفلاسفة يزعمون أنها كانت طيناً في بحار انحسرت ثم تحجرت، وقد أطال الإمام الكلام على ذلك في كتابه «المباحث المشرقية» واستدل على ذلك بوجود أشياء بحرية كالصدف بين أجزائها، وهذا عند تدقيق النظر هباء وأكثر الأدلة مثله، ومن أراد الاطلاع على ما قالوا فليرجع إلى كتبهم. وروي عنه أيضاً أنه قرأ { جدد } بفتحتين ولم يجز ذلك أبو حاتم وقال: إن هذه القراءة لا تصح من حيث المعنى وصححها غيره وقال: الجدد الطريق الواضح المبين إلا أنه وضع المفرد موضع الجمع ولذا وصف بالجمع، وقيل هو من باب نطفة أمشاج وثوب أخلاق لاشتمال الطريق على قطع. وتعقب بأنه غير ظاهر ولا مناسب لجمع الجبال.

{ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } أي أصنافها بالشدة والضعف لأنها مقولة بالتشكيك فمختلف صفة (بيض وحمر)، و { أَلْوَانُهَا } فاعل له وليس بمبتدأ، و { مُّخْتَلِفٍ } خبره لوجوب مختلفة حينئذٍ، وجوز أن يكون صفة { جُدَدٌ } { وَغَرَابِيبُ } عطف على { بَيْضٌ } فهو من تفاصيل الجدد والصفات القائمة بها أي ومن / الجبال ذو جدد بيض وحمر، وغرابيب والغربيب هو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب، وكثر في كلامهم اتباعه للأسود على أنه صفة له أو تأكيد لفظي فقالوا أسود غربيب كما قالوا أبيض يقق وأصفر فاقع وأحمر قاني.

وظاهر كلام الزمخشري أن { غرابيب } هنا تأكيد لمحذوف والأصل وسود غرابيب أي شديدة السواد. وتعقب بأنه لا يصح إلا على مذهب من يجوز حذف المؤكد ومن النحاة من منع ذلك وهو اختيار ابن مالك لأن التأكيد يقتضي الاعتناء والتقوية وقصد التطويل والحذف يقتضي خلافه. ورده الصفار كما في «شرح التسهيل» لأن المحذوف لدليل كالمذكور فلا ينافي تأكيده، وفي بعض «شروح المفصل» أنه صفة لذلك المحذوف أقيم مقامه بعد حذفه.

وقوله تعالى: { سُودٌ } بدل منه أو عطف بيان له وهو مفسر للمحذوف، ونظير ذلك قول النابغة:

والمؤمن العائذات الطير يمسحها ركبان مكة بين الغيل والسند

وفيه التفسير بعد الإبهام ومزيد الاعتناء بوصف السواد حيث دل عليه من طريق الإضمار والإظهار.

ويجوز أن يكون العطف على { جُدَدٌ } على معنى ومن الجبال ذو جدد مختلف اللون ومنها غرابيب متحدة اللون كما يؤذن به المقابلة وإخراج التركيب على الأسلوب الذي سمعته، وكأنه لما اعتنى بأمر السواد بإفادة أنه في غاية الشدة لم يذكر بعده الاختلاف بالشدة والضعف. وقال الفراء: الكلام على التقديم والتأخير أي سود غرابيب، وقيل ليس هناك مؤكد ولا موصوف محذوف وإنما { غرابيب } معطوف على { جُدَدٌ } أو على (بيض) من أول الأمر و { سُودٌ } بدل منه، قال في «البحر»: وهذا حسن ويحسنه كون غرابيب لم يلزم فيه أن يستعمل تأكيداً، ومنه ما جاء في الحديث "إن الله تعالى يبغض الشيخ الغربيب" وهو الذي يخضب بالسواد، وفسره ابن الأثير بالذي لا يشيب أي لسفاهته أو لعدم اهتمامه بأمر آخرته، وحكي ما في «البحر» بصيغة قيل، وقول الشاعر:

العين طامحة واليد سابحة والرِّجل لائحة والوجه غربيب