التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ
٢٨
-فاطر

روح المعاني

{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَابّ وَٱلأَنْعَـٰمِ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰنُهُ } أي ومنهم بعض مختلف ألوانه أو بعضهم مختلف ألوانه على ما ذكروا في قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِٱللَّهِ } [البقرة: 8] والجملة عطف على الجملة التي قبلها وحكمها حكمها. وفي «إرشاد العقل السليم» أن إيراد الجملتين اسميتين مع مشاركتهما لما قبلهما من الجملة الفعلية في الاستشهاد بمضمونهما على تباين الناس في الأحوال الباطنة لما أن اختلاف الجبال والناس والدواب والأنعام فيما ذكر من الألوان أمر مستمر فعبر عنه بما يدل على الاستمرار وأما إخراج الثمرات المختلفة فحيث كان أمراً حادثاً عبر عنه بما يدل على الحدوث ثم لما كان فيه نوع خفاء علق به الرؤية بطريق الاستفهام التقريري المنبـىء عن الحمل عليها والترغيب فيهاب خلاف أحوال الجبال والناس وغيرهما فإنها مشاهدة غنية عن التأمل فلذلك جردت عن التعليق بالرؤية فتدبر اهـ، وما ذكره من أمر تعليق الرؤية مخالف لما في «البحر» حيث قال: وهذا استفهام تقرير ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جداً فتأمل.

وقرأ الزهري { وٱلدواب } بتخفيف الباء مبالغة في الهرب من التقاء الساكنين كما همز بعضهم { ولا ٱلضألين } [الفاتحة: 7] لذلك. / وقرأ ابن السميقع { أَلْوَانُهَا }.

وقوله تعالى: { كَذٰلِكَ } في محل نصب صفة لمصدر (مختلف) المؤكد والتقدير مختلف اختلافاً كائناً كذلك أي كاختلاف الثمرات والجبال فهو من تمام الكلام قبله والوقف عليه حسن بإجماع أهل الأداء وقوله سبحانه: { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء } تكملة لقوله تعالى: { { إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ } [فاطر: 18] بتعيين من يخشاه عز وجل من الناس بعد الإيماء إلى بيان شرف الخشية ورداءة ضدها وتوعد المتصفين به وتقرير قدرته عز وجل المستدعي للخشية على ما نقول أو بعد بيان اختلاف طبقات الناس وتباين مراتبهم أما في الأوصاف المعنوية فبطريق التمثيل وأما في الأوصاف الصورية فبطريق التصريح توفية لكل واحدة منهما حقها اللائق بها من البيان.

وقيل { كَذٰلِكَ } في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك أي كما بين ولخص ثم قيل: { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ } الخ وسلك به مسلك الكناية من باب العرب لا تخفر الذمم دلالة على أن العلم يقتضي الخشية ويناسبها وهو تخلص إلى ذكر أوليائه تعالى مع إفادة أنهم الذين نفع فيهم الإنذار وأن لك بهم غنية عن هؤلاء المصرين، قال صاحب «الكشف»: والرفع أظهر ليكون من فصل الخطاب.

وقال ابن عطية يحتمل أن يكون { كَذٰلِكَ } متعلقاً بما بعده خارجاً مخرج السبب أي كذلك الاعتبار والنظر في مخلوقات الله تعالى واختلاف ألوانها يخشى الله العلماء، ورده السمين بأن (إنما) لا يعمل ما بعده فيما قبلها وبأن الوقف على كذلك عند أهل الأداء جميعاً، وارتضاه الخفاجي وقال: وبه ظهر ضعف ما قيل إن المعنى الأمر كذلك أي كما بين ولخص على أنه تخلص لذكر أولياء الله تعالى، وفيه أنه ليس في هذا المعنى عمل ما بعد (إنما) فيما قبلها وإجماع أهل الأداء على الوقف على { كَذٰلِكَ } إن سلم لا يظهر به ضعف ذلك، وفي بعض التفاسير المأثورة عن السلف ما يشعر بتعلق { كَذٰلِكَ } بما بعده. أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية: كما اختلفت هذه الأنعام تختلف الناس في خشية الله تعالى كذلك وهذا عندي ضعيف والأظهر ما عليه الجمهور وما قيل أدق وألطف.

والمراد بالعلماء العالمون بالله عز وجل وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الحميدة وسائر شؤونه الجميلة لا العارفون بالنحو والصرف مثلاً فمدار الخشية ذلك العلم لا هذه المعرفة فكل من كان أعلم به تعالى كان أخشى. روى الدارمي عن عطاء قال: قال موسى عليه السلام يا رب أي عبادك أحكم؟ قال الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه قال: يا رب أي عبادك أغنى؟ قال: أرضاهم بما قسمت له قال: يا رب أي عبادك أخشى؟ قال: أعلمهم بـي. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا أخشاكم لله وأتقاكم له" ولكونه المدار ذكرت الخشية بعدما يدل على كمال القدرة، ولهذه المناسبة فسر ابن عباس كما أخرج عنه ابن المنذر وابن جرير { ٱلْعُلَمَاء } في الآية بالذين يعلمون أن الله تعالى على كل شيء قدير.

وتقديم المفعول لأن المقصود بيان الخاشين والإخبار بأنهم العلماء خاصة دون غيرهم ولو أخر لكان المقصود بيان المخشي والإخبار بأنه الله تعالى دون غيره كما في قوله تعالى: { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ } [الأحزاب: 39] والمقام لا يقتضيه بل يقتضي الأول ليكون تعريضاً بالمنذرين المصرين على الكفر والعناد وأنهم جهلاء بالله تعالى وبصفاته ولذلك لا يخشون الله تعالى ولا يخافون عقابه. وأنكر بعضهم إفادة { إِنَّمَا } هنا للحصر وليس بشيء.

وروي عن عمر بن عبد العزيز وأبـي حنيفة رضي الله تعالى عنهما أنهما قرءا { إنما يخشى الله } بالرفع { العلماء } بالنصب وطعن صاحب «النشر» في هذه القراءة، وقال أبو حيان: / ((لعلها لا تصح عنهما، وقد رأينا كتباً في الشواذ ولم يذكروا هذه القراءة وإنما ذكرها الزمخشري وذكرها عن أبـي حيوة أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة في كتابه «الكامل» وخرجت على أن الخشية مجاز عن التعظيم بعلاقة اللزوم فإن المعظم يكون مهيباً)) وقيل الخشية ترد بمعنى الاختيار كقوله:

خشيت بني عمي فلم أر مثلهم

{ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } تعليل لوجوب الخشية لأن العزة دالة على كمال القدرة على الانتقام ولا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة، وقيل ذكر { غَفُورٌ } من باب التكميل نظير ما في بيت الغنوي المذكور آنفاً.

والآية على ما في بعض الآثار نزلت في أبـي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه.