التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَـٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً
٤٥
-فاطر

روح المعاني

{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ } جميعاً { بِمَا كَسَبُواْ } فعلوا من السيآت كما واخذ أولئك { مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا } أي ظهر الأرض وقد سبق ذكرها في قوله تعالى: { { فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَلاَ فِى ٱلأَرْضِ } [فاطر: 44] فليس من الاضمار قبل الذكر كما زعمه الرضي؛ وظهر الأرض مجاز عن ظاهرها كما قال الراغب وغيره، وقيل: في الكلام استعارة مكنية تخييلية والمراد ما ترك عليها { مِن دَابَّةٍ } أي من حيوان يدب على الأرض لشؤم المعاصي، وقد قال سبحانه { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } [الأنفال: 25] وهو المروي عن ابن مسعود، وقيل: المراد بالدابة الإنس وحدهم وأيد بقوله تعالى: { وَلٰكِن يُؤَخِرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ } وهو يوم القيامة فإن الضمير للناس لأنه ضمير العقلاء ويوم القيامة الأجل المضروب لبقاء نوعهم، وقيل: هو لجميع من ذكر تغليباً ويوم القيامة الأجل المضروب لبقاء جنس المخلوقات.

{ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } فيجازي المكلفين منهم عند ذلك بأعمالهم إن شراً فشر وإن خيراً فخير، وجملة { فإن الله } الخ موضوعة موضع الجزاء والجزاء في الحقيقة يجازي كما أشرنا إليه، هذا والله تعالى هو الموفق للخير ولا اعتماد إلا عليه.

ومن باب الإشارة: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } إشارة إلى إيجاد عالمي اللطافة والكثافة وإلى أن إيجاد عالم اللطافة مقدم على إيجاد عالم الكثافة، ويشير إلى ذلك ما شاع ((خلق الله تعالى الأرواح قبل الأبدان بأربعة آلاف سنة { جَاعِلِ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلاً } في إيصال أوامره من يشاء من عباده أو وسائط تجري إرادته سبحانه في مخلوقاته على أيديهم { أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَ } إشارة إلى اختلافهم في الاستعداد { يَزِيدُ فِى ٱلْخَلْقِ مَا يَشَاء } [فاطر: 1] عام في الملك وغيره، وفسرت الزيادة بهبة استعداد رؤيته عز وجل { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [يونس: 26] { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } الزيادة المشار إليها وغيرها { فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } [فاطر: 2] فيه إشارة إلى أن رحمته سبحانه سبقت غضبه عز وجل { وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } [فاطر: 4] تسلية لحبيبه صلى الله عليه وسلم وإرشاد لورثته إلى الصبر على إيذاء أعدائهم لهم وتكذيبهم إياهم وإنكارهم عليهم { وَٱللَّهُ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَـٰباً فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [فاطر: 9] جرت سنته تعالى في أحياء الأرض بهذه الكيفية كذلك إذا أراد سبحانه احياء أرض القلب فيرسل أولاً رياح الإرادة فتثير سحاب المحبة ثم يأتي مطر الجود والعناية فينبت في القلب رياحين الروح وأزهار البسط ونوار الأنوار ويطيب العيش.

{ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً } [فاطر: 10] إشارة إلى أن العزة الحقيقية لا تحصل بدون الفناء، ولا تغفل عن حديث "لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل" الخ { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ } وهو أبعد المخلوقات من الحضرة وأسفلها / وأكثفها { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } وفيها نوع ما من اللطافة { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوٰجاً } [فاطر: 11] إشارة إلى ما حصل لهم من ازدواج الروح اللطيف العلوي والقالب الكثيف السفلى وهو مبدأ استعداد الوقوف على عوالم الغيب والشهادة { وَمَا يَسْتَوِى ٱلْبَحْرَانِ } قيل أي بحر العلم الوهبـي وبحر العلم الكسبـي { هَـٰذَا } أي بحر العلم الوهبـي { عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ } لخلوه عن عوارض الشكوك والأوهام { وَهَـٰذَا } أي بحر العلم الكسبـي { مِلْحٌ أُجَاجٌ } لما فيه من مشقة الفكر ومرارة الكسب وعروض الشكوك والتردد والاضطراب { وَمِن كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } إشارات لطيفة تتغذون بها وتتقوون على الأعمال { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } وهي الأخلاق الفاضلة والآداب الجميلة والأحوال المستحسنة التي تكسب صاحبها زينة { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ } سفن الشريعة والطريقة { فِيهِ مَوَاخِرَ } جارية { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [فاطر: 12] بالوصول إلى حضرته عز وجل فعل ذلك { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَاء إِلَى ٱللَّهِ } في سائر شؤونكم، ومراتب الفقر متفاوتة وكلما ازداد الإنسان قرباً منه عز وجل ازداد فقره إليه لازدياد المحبة حينئذ وكلما زاد العشق زاد فقر العاشق إلى المعشوق حتى يفنى { وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ } [فاطر: 15] فيه من البشارة ما فيه { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء } [فاطر: 28] أي العلماء به تعالى وبشؤونه فهم كلما ازدادوا علما ازدادوا خشية لما يظهر لهم من عظمته عز وجل وأنهم بالنسبة إليه تعالى شأنه لا شيء { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَـٰلِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرٰتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ } [فاطر: 32] قيل: الظالم لنفسه السالك والمقتصد السالك المجذوب والسابق المجذوب السالك، والسالك هو المتقرب والمجذوب هو المقرب والمجذوب السالك هو المستهلك في كمالات القرب الفاني عن نفسه الباقي بربه عز وجل { وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ } حزن تخيل الهجر فلا حزن للعاشق أعظم من حزن تخيل هجر معشوقه له وجفوته إياه { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } [فاطر: 34] فلا بدع إذا أذهب عنا ذلك وآمننا من القطيعة والهجران { ٱلَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ } هو نصب الأبدان وتعبها من أعمال الطاعة للتقرب إليه سبحانه { وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [فاطر: 35] هو لغوب القلوب واضطرابها من تخيل القطيعة والرد وهجر الحبيب، وقيل: لا يسمنا فيها نصب السعي في تحصيل أي أمر اردناه ولا يمسنا فيها لغوب تخيل ذهاب أي مطلوب حصلناه، وقد أشاروا إلى أن كل ذلك من فضل الله تعالى والله عز وجل ذو الفضل العظيم، هذا ونسأل الله تعالى من فضله الحلو ما تنشق منه مرارة الحسود وينفطر به قلب كل عدو وينتعش فؤاد كل محب ودود.