التفاسير

< >
عرض

فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ
٣٢
-الصافات

روح المعاني

والفاء في قولهم: { فَأَغْوَيْنَـٰكُمْ } أي فدعوناكم إلى الغي لتفريع الدعاء المذكور على حقية الوعيد عليهم لا لمجرد التعقيب كما قيل، وعلية ذلك للدعاء باعتبار أن وجوده الخارجي متعلقاً بهم كان متفرعاً عن ذلك في نفس الأمر لا باعتبار أن إصداره وإيقاعه منهم على المخاطبين كان بملاحظة ذلك كما تلاحظ العلل الغائية في الأفعال الاختيارية لأن الظاهر أن رؤساء الكفر لم يكونوا عالمين في الدنيا حقية الوعيد عليهم، نعم لا يبعد أن يكون القرناء من الشياطين عالمين بذلك من أبيهم، وكذا تسمية دعائهم إياهم إلى ما دعوهم إليه إغواء أي دعاء إلى الغي بناء على أن الكلام المذكور من الرؤساء باعتبار نفس الأمر التي ظهرت لهم يوم القيامة، ومثل هذا يقال في قولهم: { إِنَّا كُنَّا غَـٰوِينَ } بناء على أنهم إنما علموا ذلك يوم التساؤل والخصام.

والجملة مستأنفة لتعليل ما قبلها، وكأن ما أشعر به التفريع باعتبار تعلق الإغواء بالمخاطبين وهذا باعتبار صدور الإغواء نفسه منهم، وهو تصريح بما يستفاد من التفريع السابق. ويجوز أن يكون إشارة إلى وجه ترتب إغوائهم إياهم على حقية الوعيد عليهم وهو حب أن يتصف أولئك المخاطبون بنحو ما اتصفوا به من الغي ويكونوا مثلهم فيه. وملخص كلامهم أنه ليس منافي حقكم على الحقيقة سوى حب أن تكونوا مثلنا وهو غير ضار لكم وإنما الضار سوء اختياركم وقبح استعدادكم فذلك الذي ترتب عليه حقية الوعيد عليكم وثبوت هذا العذاب لكم، وجوز أن يقال: إنهم نفوا عنهم الإيمان والاعتقاد الحق وأثبتوا لهم الطغيان ومجاوزة الحد في العصيان حيث لم يلتفتوا إلى ما يوجب الاعتقاد/ الصحيح مع كثرته وظهوره ورتبوا على ذلك مع ما يقتضيه البحث حقية الوعيد وفرعوا على مجموع الأمرين أنهم دعوهم إلى الغير مراداً به الكفر لاعتقاد أمر فاسد لا مجرد عدم الإيمان أي عدم التصديق بما يجب التصديق به بدون اعتقاد أمر آخر يكفر باعتقاده، وأشاروا إلى وجه ترتب ذلك على ما ذكر وهو محبة أن يكونوا مثلهم فكأنهم قالوا: كنتم تاركين الاعتقاد الحق غير ملتفتين إليه مع ظهور أدلته وكثرتها وكنا جميعاً قد حق علينا الوعيد فدعوناكم إلى ما نحن عليه من الاعتقاد الفاسد حباً لأن تكونوا أسوة أنفسنا وهذا كقولهم { { رَبَّنَا هَـؤُلاء ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَـٰهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } [القصص: 63] قال الراغب: هو إعلام منهم أنا قد فعلنا بهم غاية ما كان في وسع الإنسان أن يفعل بصديقه ما يريد بنفسه أي أفدناهم ما كان لنا وجعلناهم أسوة أنفسنا وعلى هذا فأغويناكم إنا كنا غاوين انتهى، وجوز على هذا التقدير أن يكون { فَأَغْوَيْنَـٰكُمْ } مفرعاً على شرح حال المخاطبين من انتفاء كونهم مؤمنين وثبوت كونهم طاغين وعن الآيات معرضين، وقولهم: { { فَحَقَّ عَلَيْنَا } [الصافات: 31] الخ اعتراض لتعجيل بيان أن ما الفريقان فيه أمر مقضي لا ينفع فيه القيل والقال والخصام والجدال، ويجوز على هذا أن يراد بضمير الجمع في { فَحَقَّ عَلَيْنَا } الخ الرؤساء أو القرناء لا ما يعمهم والمخاطبين وأشاروا بذلك إلى أن ما هم فيه يكفي عن اللوم ويومىء إلى زيادة عذابهم، ولا يخفى أن تجويز الاعتراض لا يخلو عن اعتراض، وتجويز كون الضمير في { عَلَيْنَا } الخ للرؤساء أو القرناء يجري على غير هذا الاحتمال فتدبر. وأياً ما كان فقولهم { إِنَّا لَذَائِقُونَ } [الصافات: 31] هو قول ربهم عز وجل ووعيده سبحانه إياهم، ولو حكى كما قيل لقيل إنكم لذائقون ولكنه عدل إلى لفظ المتكلم لأنهم متكلمون بذلك من أنفسهم. ونحوه قول القائل:

لقد زعمت هوزان قَلَّ مالي وهل لي غير ما أنفقت مال

ولو حكى قولها لقال قل مالك ومنه قول المحلف للحالف احلف لأخرجن ولتخرجن الهمزة لحكاية لفظ الحالف والتاء لإقبال المحلف على المحلف. وقال بعض الأجلة: قول الرب عز وجل هو قوله سبحانه وتعالى: { { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص: 85] والربط على ما تقدم أظهر.