التفاسير

< >
عرض

فَقَالَ إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ
٣٢

روح المعاني

{ فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِى } قاله عليه السلام اعترافاً بما صدر عنه من الاشتغال وندماً عليه وتمهيداً لما يعقبه من الأمر بردها وعقرها على ما هو المشهور. والخير كثر استعماله في المال ومنه قوله تعالى: { { إِن تَرَكَ خَيْرًا } [البقرة: 180] وقوله سبحانه: { { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [البقرة: 273] وقوله عز وجل: { { وَإِنَّهُ لِحُبّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [العاديات: 8] وقال بعض العلماء: لا يقال للمال خير حتى يكون كثيراً ومن مكان طيب كما روي أن علياً كرم الله تعالى وجهه دخل على مولى له فقال: ألا أوصي يا أمير المؤمنين؟ قال: لا لأن الله تعالى يقول: { إِن تَرَكَ خَيْرًا } وليس لك مال كثير، وروي تفسيره بالمال هنا عن الضحاك وابن جبير. وقال أبو حيان: يراد بالخير الخيل والعرب تسمى الخيل الخير، وحَكَى ذلك عن قتادة والسدي، ولعل ذلك لتعلق الخير بها، ففي الخبر "الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة" والإحباب على ما نقل عن الفراء مضمن معنى الإيثار وهو ملحق بالحقيقة لشهرته في ذلك، وظاهر كلام بعضهم أنه حقيقة فيه فهو مما يتعدى بعلى لكن عدي هنا بعن لتضمينه معنى الإنابة { وَحَبَّ ٱلْخَيْرُ } مفعول به أي آثرت حب الخير منيباً له عن ذكر ربـي أو أنبت حب الخير عن ذكر ربـي مؤثراً له.

وجوز كون { حُبَّ } منصوباً على المصدر التشبيهي ويكون مفعول { أَحْبَبْتُ } محذوفاً أي أحببت الصافنات أو عرضها حباً مثل حب الخير منيباً لذلك عن ذكر ربـي، وليس المراد بالخير عليه الخيل وذكر أبو الفتح الهمداني أن أحببت بمعنى لزمت من قوله:

ضرب بعير السوء إذ أحبا

واعترض بأن أحب بهذا المعنى غريب لم يرد إلا في هذا البيت وغرابة اللفظ تدل على اللكنة وكلام الله عز وجل منزه عن ذلك، مع أن اللزوم لا يتعدى بعن إلا إذا ضمن معنى يتعدى به أو تجوز به عنه فلم يبق فائدة في العدول عن المعنى المشهور مع صحته أيضاً بالتضمين وجعل بعضهم الإحباب من أول الأمر بمعنى التقاعد والاحتباس و { حُبَّ ٱلْخَيْرِ } مفعولاً لأجله أي تقاعدت واحتبست عن ذكر ربـي لحب الخير.

وتعقب بأن الذي يدل عليه كلام اللغويين أنه لزوم عن تعب أو مرض ونحوه فلا يناسب تقاعد النشاط والتلهي الذي كان عليه السلام فيه وقول بعض الأجلة: بعد التنزل عن جواز استعمال المقيد في المطلق لما كان لزوم المكان لمحبة الخيل على خلاف مرضاة الله تعالى جعلها من/ الأمراض التي تحتاج إلى التداوي بأضدادها ولذلك عقرها ففي { أَحْبَبْتُ } استعارة تبعية لا يخفى حسنها ومناسبتها للمقام ليس بشيء لخفاء هذه الاستعارة نفسها وعدم ظهور قرينتها، وبالجملة ما ذكره أبو الفتح مما لا ينبغي أن يفتح له باب الاستحسان عند ذوي العرفان.

وجوز حمل { أَحْبَبْتُ } على ظاهره من غير اعتبار تضمينه ما يتعدى بعن وجعل عن متعلقة بمقدر كمعرضا وبعيدا وهو حال من ضمير { أَحْبَبْتُ }، وجوز في عن كونها تعليلية وسيأتي إن شاء الله تعالى و { ذُكِرَ } مضاف إلى مفعوله وجوز أن يكون مضافاً إلى فاعله. وقيل الإضافة على معنى اللام ولا يراد بالذكر المعنى المصدري بل يراد به الصلاة فمعنى { عَن ذِكْرِ رَبِى } عن صلاة ربـي التي شرعها وهو كما ترى. وبعض من جعل (عن) للتعليل فسر ذلك الرب بكتابه عز وجل وهو التوراة أي أحببت الخيل بسبب كتاب الله تعالى وهو التوراة فإن فيه مدح ارتباطها وروي ذلك عن أبـي مسلم. وقرأ أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو { إِنّى أَحْبَبْتُ } بفتح الياء.

{ حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } متعلق بقوله تعالى: { أَحْبَبْتُ } باعتبار استمرار المحبة ودوامها حسب استمرار العرض أي أنبت حب الخير عن ذكر ربـي واستمر ذلك حتى غربت الشمس تشبيهاً لغروبها في مغربها بتواري المخباة بحجابها على طريق الاستعارة التبعية، ويجوز أن يكون هناك استعارة مكنية تخييلية وأياً ما كان فما أخرجه ابن المنذر وابن أبـي حاتم وأبو الشيخ عن كعب، قال: الحجاب هو حجاب من ياقوت أخضر محيط بالخلائق منه اخضرت السماء. وما قيل إنه جبل دون قاف بسنة تغرب الشمس وراءه لا يخفى حاله، والناس في ثبوت جبل قاف بين مصدق ومكذب والقرافي يقول لا وجود له وإليه أميل وإن قال المثبتون ما قالوا. والباء للظرفية أو الاستعانة أو الملابسة، وعود الضمير إلى الشمس من غير ذكر لدلالة العشي عليها.