التفاسير

< >
عرض

وَمَن يَكْسِبْ خَطِيۤئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
١١٢
-النساء

روح المعاني

{ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً } أي صغيرة أو ما لا عمد فيه من الذنوب. وقرأ معاذ بن جبل { يَكْسِبْ } بكسر الكاف والسين المشددة وأصله يكتسب { أَوْ إِثْماً } أي كبيرة أو ما كان عن عمد، وقيل: الخطيئة الشرك والإثم ما دونه، وفي «الكشاف» الإثم الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب، والهمزة فيه بدل من الواو كأنه يَثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه، وفي «الكشف» كأن هذا أصله، ثم استعمل في مطلق الذنب في نحو قوله تعالى: { { كَبَـٰئِرَ ٱلإثْمِ } [الشورى: 37]، ومن هذا يعلم ضعف ما ذكره صاحب القيل { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ } أي يقذف به ويسنده، وتوحيد الضمير لأنه عائد على أحد الأمرين لا على التعيين كأنه قيل: ثم يرم بأحد الأمرين، وقيل: إنه عائد على { إِثماً } فإن المتعاطفين ـ بأو ـ يجوز عود الضمير فيما بعدهما على المعطوف عليه نحو { { إِذَا رَأَوْاْ تِجَـٰرَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّواْ إِلَيْهَا } [الجمعة: 11] وعلى المعطوف نحو { { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا } [التوبة: 34]، وقيل: إنه عائد على الكسب على حدّ { { ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } [المائدة: 8]، وقيل: في الكلام حذف أي ـ يرم بها وبه ـ و { ثُمَّ } للتراخي في الرتبة، وقرىء [يرم] بهما { بَرِيئاً } مما رماه به ليحمله عقوبة العاجلة كما فعل من عنده الدرع بلبيد بن سهل أو بأبـي مليك

{ فَقَدِ ٱحْتَمَلَ } بمافعل من رمى البريء، وقصده تحميل جريرته عليه وهو أبلغ من حمل، وقيل: افتعل بمعنى فعل فاقتدر وقدر { بُهْتَـٰناً } وهو الكذب على الغير بما يبهت منه ويتحير عند سماعه لفظاعته، وقيل: هو الكذب الذي يتحير في عظمه، والماضي ـ بهت ـ كمنع، ويقال في المصدر: بهتاً وبهتاً وبهتاً { وَإِثْماً مُّبِيناً } أي بيناً لا مرية فيه ولا خفاء وهو صفة ـ لإثماً ـ وقد اكتفى في بيان عظم البهتان بالتنكير التفخيمي على أن وصف الإثم بما ذكر بمنزلة وصف البهتان به لأنهما عبارة عن أمر واحد / هو رمي البريء بجناية نفسه. وعبر عنه بهما تهويلاً لأمره وتفظيعاً لحاله فمدار العظم والفخامة كون المرمي به للرامي فإن رمي البريء بجناية ما خطيئة كانت أو إثماً بهتان وإثم في نفسه، أما كونه بهتاناً فظاهر، وأما كونه إثماً فلأن كون الذنب بالنسبة إلى من فعله خطيئة لا يلزم منه كونه بالنسبة إلى من نسبه إلى البريء منه أيضاً كذلك، بل لا يجوز ذلك قطعاً كيف لا وهو كذب محرم في سائر الأديان، فهو في نفسه بهتان وإثم لا محالة، وبكون تلك الجناية للرامي يتضاعف ذلك شدة ويزداد قبحاً لكن لا لانضمام جنايته المكسوبة إلى رمي البريء وإلا لكان الرمي بغير جنايته مثله في العظم، ولا لمجرد اشتماله على تبرئة نفسه الخاطئة وإلا لكان الرمي بغير جنايته مع تبرئة نفسه مثله في العظم بل لاشتماله على قصد تحميل جنايته على البريء وإجراء عقوبتها عليه كما ينبىء عنه إيثار الاحتمال على الاكتساب ونحوه لما فيه من الإيذان بانعكاس تقديره مع ما فيه من الإشعار بثقل الوزر وصعوبة الأمر على ما يقتضيه ظاهر صيغة الافتعال، نعم بما ذكر من انضمام كسبه وتبرئة نفسه إلى رمي البريء تزداد الجناية قبحاً لكن تلك الزيادة وصف للمجموع لا للإثم فقط ـ كذا قاله شيخ الإسلام ـ ولا يخفى أنه أولى مما يفهم من ظاهر كلام «الكشاف» من أن في التنزيل لفاً ونشراً غير مرتب حيث قال إثر قوله تعالى: { فَقَدِ ٱحْتَمَلَ } الخ لأنه بكسبه الإثم آثم، وبرميه البريء باهت فهو جامع بين الأمرين لخلوه عما يلزمه، وإن أجيب عنه فافهم.