التفاسير

< >
عرض

لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
١٢٣
-النساء

روح المعاني

{ لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيّكُمْ وَلا أَمَانِيّ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } الخطاب المؤمنين، والأماني بالتشديد والتخفيف ـ وبهما قرىء ـ جمع أمنية على وزن أفعولة، وهي كما قال الراغب: الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء أي تقديره في النفس وتصويره فيها، ويقال: منى له الماني أي قدر له المقدر، ومنه قيل: منية أي مقدرة؛ وكثيراً ما يطلق التمني على تصور ما لا حقيقة له، ومن هنا يعبر به عن الكذب لأنه تصور ما ذكر، وإيراده باللفظ فكأن التمني مبدأ له فلهذا صح التعبير به عنه، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه: ما تعنيت ولا تمنيت منذ أسلمت؛ والباء في { بِأَمَـٰنِيّكُمْ } مثلها في ـ زيد بالباب ـ وليست زائدة والزيادة محتملة، ونفاها البعض، واسم { لَّيْسَ } مستتر فيها عائد على الوعد بالمعنى المصدري، أو بمعنى الموعود فهو استخدام كما قال السعد وقيل: عائد على الموعود الذي تضمنه عامل وعد الله، أو على إدخال الجنة أو العمل الصالح، وقيل: عائد على الإيمان المفهوم من الذين آمنوا؛ وقيل: على الأمر المتحاور فيه بقرينة سبب النزول.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدى قال: التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى، فقال اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم ولن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، وقالت النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم؛ ونبينا صلى الله عليه وسلم بعد نبيكم، وديننا بعد دينكم وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم فنحن خير منكم نحن على دين إبراهيم وإسمٰعيل وإسحق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا، فأنزل الله تعالى: { لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيّكُمْ }، وقوله سبحانه: { { وَمَنْ أَحْسَنُ } [النساء: 125] الخ أي ليس وعد الله تعالى، أو ما وعده سبحانه من الثواب أو إدخال الجنة، أو العمل الصالح، أو الإيمان، أو ما تحاورتم فيه حاصلاً بمجرد أمانيكم أيها المسلمون ولا أماني اليهود والنصارى، وإنما يحصل بالسعي والتشمير عن ساق الجد لامتثال الأمر، ويؤيد عود الضمير على الإيمان المفهوم مما قبله، أنه أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن موقوفاً "ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظن بالله تعالى وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل" وأخرج البخاري في «تاريخه» عن أنس مرفوعاً "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب فأما علم القلب فالعلم النافع وعلم اللسان حجة على بني آدم" . وروي عن مجاهد وابن زيد أن الخطاب لأهل الشرك فإنهم قالوا: لا نبعث ولا نعذب كما قال أهل الكتاب: { { لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ } [البقرة: 111] وأيد بأنه لم يجر للمسلمين ذكر في الأماني وجرى للمشركين ذكر في ذلك أي ليس الأمر بأماني المشركين وقولهم: لا بعث ولا عذاب، ولا بأماني أهل الكتاب وقولهم ما قالوا.

وقرر سبحانه ذلك بقوله عز من قائل: { مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } عاجلاً أو آجلاً، فقد أخرج الترمذي وغيره عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: "كنت عند النبـي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ألا أقرئك آية نزلت علي؟ فقلت: بلى يا رسول الله فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقصاماً في ظهري حتى تمطأت لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك يا أبا بكر؟ قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله وأينا لم يعمل السوء وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله تعالى ليس عليكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزون يوم القيامة" . وأخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: "لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله تعالى فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سددوا وقاربوا فإن في كل ما أصاب المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها" والأحاديث بهذا المعنى أكثر من أن تحصى، ولهذا أجمع عامة العلماء على أن الأمراض والاسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن قلّت مشقتها يكفر الله تعالى بها الخطيئات، / والأكثرون على أنها أيضاً يرفع بها الدرجات وتكتب الحسنات وهو الصحيح المعول عليه، فقد صح في غير ما طريق "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة" .

وحكى القاضي عن بعضهم أنها تكفر الخطايا فقط ولا ترفع درجة، وروي عن ابن مسعود ـ الوجع لا يكتب به أجر لكن يكفر به الخطايا ـ واعتمد على الأحاديث التي فيها التكفير فقط ولم تبلغه الأحاديث الصحيحة المصرحة برفع الدرجات وكتب الحسنات، بقي الكلام في أنها هل تكفر الكبائر أم لا؟، وظاهر الأحاديث ـ ومنها خبر أبـي بكر رضي الله تعالى عنه ـ أنها تكفرها، وقد جاء في خبر حسن عن عائشة «أن العبد ليخرج بذلك من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير»، وأخرج ابن أبـي الدنيا والبيهقي عن يزيد بن أبـي حبيب قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال الصداع والمليلة بالمرء المسلم حتى يدعه مثل الفضة البيضاء" إلى غير ذلك. ولا يخفى أن إبقاء ذلك على ظاهره مما يأباه كلامهم، وخص بعضهم الجزاء بالآجل، ومن بالمشركين وأهل الكتاب، وروي ذلك عن الحسن والضحاك وابن زيد قالوا: وهذا كقوله تعالى: { { وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ } [سبأ: 17]، وقيل: المراد من السوء هنا الشرك، وأخرجه ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن جبير، وكلا القولين خلاف الظاهر، وفي الآية ردّ على المرجئة القائلين: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة.

{ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي مجاوزاً لولاية الله تعالى ونصرته { وَلِيّاً } يلي أمره ويحامي عنه ويدفع ما ينزل به من عقوبة الله تعالى { وَلاَ نَصِيراً } ينصره وينجيه من عذاب الله تعالى إذا حل به، ولا مستند في الآية لمن منع العفو عن العاصي إذ العموم فيها مخصص بالتائب إجماعاً، وبعد فتح باب التخصيص لا مانع من أن نخصصه أيضاً بمن يتفضل الله تعالى بالعفو عنه على ما دلت عليه الأدلة الأخر.