التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
١٧٠
-النساء

روح المعاني

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } خطاب لجميع المكلفين بعد أن حكى سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم تعلل اليهود بالأباطيل واقتراحهم الباطل تعنتاً، ورد جل شأنه عليهم بما رد وأكد ذلك بما أكد، وفي توجيه الخطاب إليهم وأمرهم بالإيمان مشفوعاً بالوعد والوعيد بعد تنبيه على أن المحجة قد وضحت والحجة قد لزمت فلم يبق لأحد عذر في القبول، وقيل: الخطاب لأهل مكة لأن الخطاب ـ بيا أيها الناس ـ أينما وقع لهم، ولا يخفى أن التعميم أولى، وما ذكر في حيز الاستدلال وإن روى عن بعض السلف أغلبـي، وقيل: هو للكفار مطلقاً إبقاءاً للأمر على ظاهره، ولم يحتج إلى حمله على ما يعم الأحداث والثبات.

{ قَدْ جَاءكُمُ ٱلرَّسُولُ } يعني به محمداً صلى الله عليه وسلم، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتأكيد وجوب طاعته { بِٱلْحَقّ } أي متلبساً به، وفسر بالقرآن. وبدين الإسلام. وبشهادة التوحيد، وجوز أن تكون الباء للتعدية أو للسببية متعلقة ـ بجاء ـ أي جاءكم بسبب إقامة الحق، وقوله سبحانه: { مِن رَّبّكُمْ } متعلق إما بالفعل أيضاً، أو بمحذوف وقع حالاً من (الحق)؛ أي جاءكم به من عند الله تعالى، أو كائناً منه سبحانه، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين للإيذان بأن ذلك لتربيتهم وتبليغهم إلى كمالهم اللائق بهم ترغيباً لهم في الامتثال لما بعد من الأمر كما أن في ذكر الجملة تمهيداً لما يعقبها من ذلك؛ وقيل: إنها تكرير للشهادة وتقرير للمشهود به وتمهيد لما ذكر.

{ فَـئَامِنُواْ } أي بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الحق، والفاء للدلالة على إيجاب ما قبلها لما بعدها، وقوله سبحانه: { خَيْراً لَّكُمْ } منصوب بفعل محذوف وجوباً تقديره وافعلوا أو ائتوا خيراً لكم، وإلى هذا ذهب الخليل وسيبويه، وذهب الفراء إلى أنه نعت لمصدر محذوف أي إيماناً خيراً لكم، وأورد عليه أنه يقتضي أن الإيمان ينقسم إلى خير وغيره ودفع بأنه صفة مؤكدة، وأن مفهوم الصفة قد لا يعتبر، وعلى القول باعتباره قد يقال: إن ذكره تعريض بأهل الكتاب فإن لهم إيماناً ببعض ما يجب الإيمان به كاليوم الآخر مثلاً إلا أنه ليس خيراً حيث لم يكن على الوجه المرضي. وذهب الكسائي وأبو عبيدة إلى أنه خبر كان مضمرة، والتقدير يكن الإيمان خيراً لكم، ورد بأن كان لا تحذف مع اسمها دون خبرها إلا في مواضع اقتضته، وأن المقدر جواب شرط محذوف فيلزم حذف الشرط وجوابه إذ التقدير إن تؤمنوا يكن الإيمان خيراً، وأجيب بأن تخصيص حذف كان واسمها في مواضع لا يسلمه هذا القائل؛ وبأن لزوم حذف الشرط وجوابه مبني على أن الجزم بشرط مقدر، وإن قلنا: بأنه بنفس الأمر وأخواته كما هو مذهب لبعض النحاة لم يرد ذلك، ونقل مكي عن بعض الكوفيين أنه منصوب على / الحال وهو بعيد.

{ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } من الموجودات سواء كانت داخلة في حقيقتهما وبذلك يعلم حال أنفسهما على أبلغ وجه وآكده، أو خارجة عنهما مستقرة فيهما من العقلاء وغيرهم ويدخل في ذلك المخاطبون دخولاً أولياً أي كل ذلك له تعالى خلقاً وملكاً وتصرفاً، ولا يخرج من ملكوته وقهره ذرة فما دونها، والجملة دليل الجواب أقيم مقامه لأن مضمونها مقرر قبل كفرهم فلا يصلح للجواب، والتقدير وإن تكفروا فهو سبحانه قادر على تعذيبكم بكفرهم لأن له جل شأنه ما في السماوات والأرض، أو فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم، وقال بعضهم: التقدير وإن تكفروا فقد كابرتم عقولكم فإن لله سبحانه ما له مما يدل على ما ينافي حالكم واعتقادكم فكيف يتأتى الكفر به مع ذلك، وقيل: التقدير وإن تكفروا فإن عبيداً غيركم لا يكفرون بل يعبدونه وينقادون لأمره ولا يخلو عن بعد. { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً } بأحوال كل ويدخل في ذلك كفرهم دخولاً أولياً { حَكِيماً } في جميع أفعاله وتدبيراته، ويدخل في ذلك كذلك تعذيب من كفر.