التفاسير

< >
عرض

ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً
٣٤
-النساء

روح المعاني

{ ٱلرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنّسَاء } أي شأنهم القيام عليهن قيام الولاة على الرعية بالأمر والنهي ونحو ذلك. واختيار الجملة الإسمية مع صيغة المبالغة للإيذان بعراقتهم ورسوخهم في الاتصاف بما أسند إليهم، وفي الكلام إشارة إلى سبب استحقاق الرجال الزيادة في الميراث كما أن فيما تقدم رمزاً إلى تفاوت مراتب الاستحقاق، وعلل سبحانه الحكم بأمرين: وهبي وكسبي فقال عز شأنه: { بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } فالباء للسببية وهي متعلقة بـ { قَوَّامُونَ } كعلى ولا محذور أصلاً، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالاً من ضميره والباء للسببية أو للملابسة و (ما) مصدرية وضمير الجمع لكلا الفريقين تغليباً أي قوّامون عليهن بسبب تفضيل الله تعالى إياهم عليهن، أو مستحقين ذلك بسبب التفضيل، أو متلبسين بالتفضيل، وعدل عن الضمير فلم يقل سبحانه بما فضلهم الله عليهن للإشعار بغاية ظهور الأمر وعدم الحاجة إلى التصريح بالمفضل والمفضل عليه بالكلية، وقيل: للإبهام للإشارة إلى أن بعض النساء أفضل من كثير من الرجال وليس بشيء، وكذا لم يصرح سبحانه بما به التفضيل رمزاً إلى أنه غني عن التفصيل، وقد ورد أنهن ناقصات عقل ودين، والرجال بعكسهن كما لا يخفى، ولذا خصوا بالرسالة والنبوة على الأشهر، وبالإمامة الكبرى والصغرى، وإقامة الشعائر كالأذان والإقامة والخطبة والجمعة وتكبيرات التشريق عند إمامنا الأعظم ـ والاستبداد بالفراق وبالنكاح عند الشافعية ـ وبالشهادة في أمهات القضايا وزيادة السهم في الميراث والتعصيب إلى غير ذلك { وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ } عطف على ما قبله فالباء متعلقة بما تعلقت به الباء الأولى، و (ما) مصدرية أو موصولة وعائدها محذوف، و { مِنْ } تبعيضية أو ابتدائية متعلقة ـ بأنفقوا ـ أو بمحذوف وقع حالاً من العائد المحذوف وأريد بالمنفق ـ كما قال مجاهد ـ المهر، ويجوز أن يراد بما أنفقوه ما يعمه، والنفقة عليهنّ، والآية ـ كما روي عن مقاتل ـ "نزلت في سعد بن الربيع بن عمرو وكان من النقباء، وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبـي زهير وذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبـي صلى الله عليه وسلم فقال: أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: لتقتص من زوجها، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: ارجعوا هذا جبرائيل عليه السلام أتاني وأنزل الله هذه الآية فتلاها صلى الله عليه وسلم ثم قال: أردنا أمراً وأراد الله تعالى أمراً والذي أراده الله تعالى خير" . / وقال الكلبـي: نزلت في سعد بن الربيع وامرأته خولة بنت محمد بن سلمة وذكر القصة، وقال بعضهم: نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبـيّ وزوجها ثابت بن قيس بن شماس، وذكر قريباً منه، واستدل بالآية على أن للزوج تأديب زوجته ومنعها من الخروج وأن عليها طاعته إلا في معصية الله تعالى، وفي الخبر "لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها" واستدل بها أيضاً من أجاز فسخ النكاح عند الإعسار عن النفقة والكسوة وهو مذهب مالك والشافعي لأنه إذا خرج عن كونه قواماً عليها، فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح، وعندنا لا فسخ لقوله تعالى: { { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ } [البقرة: 280] واستدل بها أيضاً من جعل للزوج الحجر على زوجته في نفسها ومالها فلا تتصرف فيه إلا بإذنه لأنه سبحانه جعل الرجل قواماً بصيغة المبالغة وهو الناظر على الشيء الحافظ له.

{ فَٱلصَّـٰلِحَـٰتُ } أي منهن { قَٰنِتَٰتٌ } شروع في تفصيل أحوالهن وكيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن، والمراد فالصالحات منهن مطيعات لله تعالى ولأزواجهن { حَـ{ فِظَـٰتٌ لّلْغَيْبِ } أي يحفظن أنفسهن وفروجهن في حال غيبة أزواجهن، قال الثوري وقتادة: أو يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال، فاللام بمعنى في، والغيب بمعنى الغيبة، وأل عوض عن المضاف إليه على رأي، ويجوز أن يكون المراد حافظات لواجب الغيب أي لما يجب عليهن حفظه حال الغيبة، فاللام على ظاهرها، وقيل: المراد حافظات لأسرار أزواجهن أي ما يقع بينهم وبينهن في الخلوة، ومنه المنافسة والمنافرة واللطمة المذكورة في الخبر، وحينئذٍ لا حاجة إلى ما قيل في اللام، ولا إلى تفسير الغيب بالغيبة إلا أن ما أخرجه ابن جرير والبيهقي وغيرهم من حديث أبـي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { ٱلرّجَالُ قَوَّامُونَ } إلى الغيب" يبعد هذا القول؛ ومن الناس من زعم أنه أنسب بسبب النزول { بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ } أي بما حفظهن الله تعالى في مهورهن، وإلزام أزواجهن النفقة عليهن قاله الزجاج، وقيل: بحفظ الله تعالى لهن وعصمته إياهن ولولا أن الله تعالى حفظهن وعصمهن لما حفظن ـ فما ـ إما موصولة أو مصدرية، وقرأ أبو جعفر { بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ } بالنصب، ولا بد من تقدير مضاف على هذه القراءة ـ كدين الله، وحقه ـ لأن ذاته تعالى لا يحفظها أحد، و (ما) موصولة أو موصوفة، ومنع غير واحد المصدرية لخلو حفظ حينئذٍ عن الفاعل لأنه كان يجب أن يقال بما حفظن الله، وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكون فاعله ضميراً مفرداً عائداً على جمع الإناث لأنه في معنى الجنس كأنه قيل. فمن حفظ الله، وجعله ابن جني كقوله:

فإن الحوادث أودى بها

ولا يخفى ما فيه من التكلف، وشذوذ ترك التأنيث ومثله لا يليق بالنظم الكريم كما لا يخفى، ثم إن صيغة جمع السلامة هنا للكثرة أما المعرف فظاهر، وأما المنكر فلأنه حمل عليه فلا بد من مطابقته له في الكثرة، وإلا لم يصدق على جميع أفراده، وقد نص على ذلك في «الدر المصون». وقرأ ابن مسعود (فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله فأصلحوا إليهن)، وأخرج ابن جرير عنه زيادة (فأصلحوا إليهن) فقط.

{ وَٱللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } أي ترفعهن عن مطاوعتكم وعصيانهن لكم، من النشز ـ بسكون الشين وفتحها ـ وهو المكان المرتفع ويكون بمعنى الارتفاع { فَعِظُوهُنَّ } أي فانصحوهن/ وقولوا لهن اتقين الله وارجعن عما أنتن عليه، وظاهر الآية ترتب هذا على خوف النشوز وإن لم يقع وإلا لقيل نشزن، ولعله غير مراد ولذا فسر في «التيسير» { تَخَافُونَ } بتعلمون، وبه قال الفراء ـ كما نقله عنه الطبرسي ـ وجاء الخوف بهذا كما في «القاموس»، وقيل: المراد: تخافون دوام نشوزهن أو أقصى مراتبه كالفرار منهم في المراقد. واختار في «البحر» أن في الكلام مقدراً وأصله: واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن فعظوهن، وهو خطاب للأزواج وإرشاد لهم إلى طريق القيام عليهن.

{ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ } أي مواضع الاضطجاع، والمراد: أتركوهن منفردات في مضاجعهن فلا تدخلونهن تحت اللحف ولا تباشروهن فيكون الكلام كناية عن ترك جماعهن، وإلى ذلك ذهب ابن جبير، وقيل: المراد أهجروهن في الفراش بأن تولوهن ظهوركم فيه ولا تلتفتوا إليهن، وروي ذلك عن أبـي جعفر رضي الله تعالى عنه ولعله كناية أيضاً عن ترك الجماع، وقيل: المضاجع المبايت أي أهجروا حجرهن ومحل مبيتهن، وقيل: { فِى } للسببية أي أهجروهن بسبب المضاجع أي بسبب تخلفهن عن المضاجعة، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن أبـي شيبة من طريق أبـي الضحى، فالهجران على هذا بالمنطق، قال عكرمة: بأن يغلظ لها القول، وزعم بعضهم أن المعنى أكرهوهن على الجماع واربطوهن من هجر البعير إذا شده بالهجار، وتعقبه الزمخشري بأنه من تفسير الثقلاء، وقال ابن المنير: «لعل هذا المفسر يتأيد بقوله تعالى: { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ } فإنه يدل على تقدم إكراه في أمر ما، وقرينة (المضاجع) ترشد إلى أنه الجماع، فإطلاق الزمخشري لما أطلقه في حق هذا المفسر من الإفراط» انتهى، وأظن أن هذا لو عرض على الزمخشري لنظم قائله في سلك ذلك المفسر، ولعدّ تركه من التفريط؛ وقرىء (في المضطجع) و (المضجع).

{ وَٱضْرِبُوهُنَّ } يعني ضرباً غير مبرح ـ كما أخرجه ابن جرير عن حجاج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وفسر غير المبرح بأن لا يقطع لحماً ولا يكسر عظماً. وعن ابن عباس أنه الضرب بالسواك ونحوه، والذي يدل عليه السياق والقرينة العقلية أن هذه الأمور الثلاثة مترتبة فإذا خيف نشوز المرأة تنصح ثم تهجر ثم تضرب إذ لو عكس استغنى بالأشدّ عن الأضعف، وإلا فالواو لا تدل على الترتيب وكذا الفاء في { فَعِظُوهُنَّ } لا دلالة لها على أكثر من ترتيب المجموع، فالقول بأنها أظهر الأدلة على الترتيب ليس بظاهر، وفي «الكشف» الترتيب مستفاد من دخول الواو على أجزئه مختلفة في الشدة والضعف مترتبة على أمر مدرج، فإنما النص هو الدال على الترتيب. هذا وقد نص بعض أصحابنا أن للزوج أن يضرب المرأة على أربع خصال وما هو في معنى الأربع ترك الزينة والزوج يريدها وترك الإجابة إذا دعاها إلى فراشه وترك الصلاة في رواية والغسل، والخروج من البيت إلا لعذر شرعي، وقيل: له أن يضربها متى أغضبته، فعن أسماء بنت أبـي بكر رضي الله تعالى عنه كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه فإذا غضب على واحدة منا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها، ولا يخفى أن تحمل أذى النساء والصبر عليهن أفضل من ضربهن إلا لداع قوي، فقد أخرج ابن سعد والبيهقي عن أم كلثوم بنت الصديق رضي الله تعالى عنه قالت: "كان الرجال نهوا عن ضرب النساء ثم شكوهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلى بينهم وبين ضربهن، ثم قال: ولن يضرب خياركم" وذكر الشعراني قدس سره «أن الرجل إذا ضرب زوجته ينبغي أن لا يسرع في جماعها بعد الضرب» وكأنه أخذ ذلك مما أخرجه الشيخان وجماعة عن عبد الله بن زمعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " / أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر اليوم" وأخرج عبد الرزاق عن عائشة رضي الله تعالى عنها بلفظ: «أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره» وللخبر محمل آخر لا يخفى.

{ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ } أي وافقنكم وانقدن لما أوجب الله تعالى عليهن من طاعتكم بذلك كما هو الظاهر { فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } أي فلا تطلبوا سبيلاً وطريقاً إلى التعدي عليهن، أو لا تظلموهن بطريق من الطرق بالتوبيخ اللساني والأذى الفعلي وغيره واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن، فالبغي إما بمعنى الطلب، و { سَبِيلاً } مفعوله والجار متعلق به، أو صفة النكرة قدم عليها، وإما بمعنى الظلم، و { سَبِيلاً } منصوب بنزع الخافض، وعن سفيان بن عيينة أن المراد فلا تكلفوهن المحبة، وحاصل المعنى إذا استقام لكم ظاهرهن فلا تعتلوا عليهن بما في باطنهن { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } فاحذروه فإن قدرته سبحانه عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم منهن، أو أنه تعالى على علو شأنه وكمال ذاته يتجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم إذا تبتم فتجاوزوا أنتم عن سيئات أزواجكم واعفوا عنهن إذا تبن، أو أنه تعالى قادر على الانتقام منكم غير راض بظلم أحد، أو أنه سبحانه مع علوه المطلق وكبريائه لم يكلفكم إلا ما تطيقون فكذلك لا تكلفوهن إلا ما يطقن..