التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً
٥١
-النساء

روح المعاني

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ } تعجيب من حال أخرى لهم ووصفهم بما في حيز الصلة تشديداً للتشنيع وتأكيداً للتعجيب، وقد تقدم نظيره، والآية نزلت ـ كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في حيـي بن أخطب وكعب بن الأشرف ـ في جمع من يهود، وذلك أنهم خرجوا إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل كعب على أبـي سفيان فأحسن مثواه ونزلت اليهود في دور قريش فقال أهل مكة: إنكم أهل كتاب ومحمد صلى الله عليه وسلم صاحب كتاب فلا يؤمن هذا أن يكون مكراً منكم فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل، ثم قال كعب: يا أهل مكة ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد صلى الله عليه وسلم ففعلوا ذلك فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقاً وأقرب إلى الحق نحن أم محمد؟ قال كعب: أعرضوا عليّ دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقيهم اللبن ونقري الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم ومحمد صلى الله عليه وسلم فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم وديننا القديم ودين محمد الحديث، فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلاً مما عليه محمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى في ذلك الآية، و ـ الجبت ـ في الأصل اسم صنم فاستعمل في كل معبود غير الله تعالى، وقيل: أصله الجبس وهو كما قال الراغب: الرذيل الذي لا خير فيه فقلبت سينه تاءاً كما في قول عمرو بن يربوع: شرار ـ النات ـ أي الناس، وإلى ذلك ذهب قطرب ـ والطاغوت ـ يطلق على كل باطل من معبود أو غيره. وأخرج الفريابـي وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «الجبت الساحر والطاغوت الشيطان». وأخرج ابن جرير من طرق عن مجاهد مثله، ومن طريق أبـي الليث عنه قال: الجبت كعب بن الأشرف، والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان، وعن سعيد بن جبير الجبت الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت الكاهن وأخرج ابن حميد عن عكرمة أن الجبت الشيطان بلغة الحبشة، والطاغوت الكاهن ـ وهي رواية / عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وفي رواية أخرى الجبت حيـي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف، وفي أخرى الجبت الأصنام، والطاغوت الذين يكونون بين يديها يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس، ومعنى الإيمان بهما إما التصديق بأنهما آلهة وإشراكهما بالعبادة مع الله تعالى، وإما طاعتهما وموافقتهما على ما هما عليه من الباطل، وإما القدر المشترك بين المعنيين كالتعظيم مثلاً، والمتبادر المعنى الأول أي أنهم يصدقون بألوهية هذين الباطلين ويشركونهما في العبادة مع الإله الحق ويسجدون لهما.

{ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي لأجلهم وفي حقهم فاللام ليست صلة القول وإلا لقيل أنتم بدل قوله سبحانه { هَٰـؤُلآءِ } أي الكفار من أهل مكة. { أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً } أي أقوم ديناً وأرشد طريقة، قيل: والظاهر أنهم أطلقوا أفعل التفضيل ولم يلحظوا معنى التشريك فيه؛ أو قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء لكفرهم، وإيراد النبـي صلى الله عليه وسلم وأتباعه بعنوان الإيمان ليس من قبل القائلين بل من جهة الله تعالى تعريفاً لهم بالوصف الجميل وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأشنع القبائح.