التفاسير

< >
عرض

غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِي ٱلطَّوْلِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
٣
-غافر

روح المعاني

وقوله تعالى: { غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِى ٱلطَّوْلِ } صفات للاسم الجليل كالعزيز العليم، وذكر غافر الذنب وقابل التوب وذي الطول للترغيب وذكر شديد العقاب للترهيب والمجموع للحث على المقصود من { { تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ } [غافر: 2] وهو المذكور بعد من التوحيد والإيمان بالبعث المستلزم للإيمان بما سواهما والإقبال على الله تعالى، والأولان منها وإن كانا اسمي فاعل إلا أنهما لم يرد بهما التجدد ولا التقييد بزمان بل أريد بهما الثبوت والاستمرار فإضافتهما للمعرفة بعدهما محضة أكسبتهما تعريفاً فصح أن يوصف بهما أعرف المعارف، والأمر في { ذِى ٱلطَّوْلِ } ظاهر جداً. نعم الأمر في { شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ } مشكل فإن شديداً صفة مشبهة وقد نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة إذا أضيف إلى معرفة جاز أن ينوي بإضافته التمحض فيتعرف وينعت به المعرفة إلا ما كان من باب الصفة المشبهة فإنه لا يتعرف ومن هنا ذهب الزجاج إلى أن { شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ } بدل، ويرد عليه أن في توسيط البدل بين الصفات تنافراً بيناً لأن الوصف يؤذن بأن الموصوف مقصود والبدل بخلافه فيكون بمنزلة استئناف القصد بعد ما جعل غير مقصود، والجواب أنه إنما يشكل ظاهراً على مذهب سيبويه وسائر البصريين القائلين بأن الصفة المشبهة لا تتعرف أصلاً بالإضافة إلى المعرفة، وأما على مذهب الكوفيين القائلين بأنها كغيرها من الصفات قد تتعرف بالإضافة ويجوز وصف المعرفة بها نحو مررت بزيد حسن الوجه فلا، ويقال فيما ذكر على المذهب الأول: إن شديداً مؤول بمشدد اسم فاعل من أشده جعله شديداً كأذين بمعنى مؤذن فيعطى حكمه، أو يقال: إنه معرف بأل والأصل الشديد عقابه لكن حذفت لأمن اللبس بغير الصفة لوقوعه بين الصفات واحتمال كونه بدلاً وحده لا يلتفت على ما سمعت إليه ورعاية لمشاكلة ما معه من الأوصاف المجردة منها والمقدر في حكم الموجود، وقد غيروا كثيراً من كلامهم عن قوانينه لأجل المشاكلة حتى قالوا: ما يعرف سحادليه من عنادليه أرادوا ما يعرف ذكره من أنثييه / فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع، وجوز كون جميع التوابع المذكورات أبدالاً وتعمد تنكير { شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ } وإبهامه للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر لزيادة الإنذار.

وفي «الكشف» جعل كلها أبدالاً فيه تنافر عظيم لا سيما في إبدال { ٱلْعَزِيزِ } من { ٱللَّهِ } الاسم الجامع لسائر الصفات العلم النص وأين هذا من براعة الاستهلال؟ وذهب مكي إلى جواز كون { غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ } دون ما قبلهما بدلين وأنهما حينئذ نكرتان، وقد علمت ما فيه مما تقدم، وقال أبو حيان: إن بدل البداء عند من أثبته قد يتكرر وأما بدل كل من كل وبدل بعض من كل وبدل اشتمال فلا نص عن أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها أو منعه إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل من البدل جائز دون تعدد البدل واتحاد المبدل منه. وظاهر كلام الخفاجي أن النحاة صرحوا بجواز تعدده حيث قال: لا يرد على القول بالإبدال قلة البدل في المشتقات، ولا أن النكرة لا تبدل من المعرفة ما لم توصف، ولا أن تعدد البدل لم يذكره النحاة كما قيل لأن النحاة صرحوا بخلافه في الجميع، وللدماميني فيه كلام طويل الذيل في أول «شرح الخزرجية» لا يسعه هذا المقام فإن أردته فانظر فيه انتهى. وعندي أن الإبدال هنا ليس بشيء كلاً أو بعضاً.

و { ٱلتَّوْبِ } يحتمل أن يكون مصدراً كالأوب بمعنى الرجوع ويحتمل أن يكون اسم جمع لتوبة كتمر وتمرة، و { ٱلطَّوْلِ } الفضل بالثواب والإنعام أو بذلك وبترك العقاب المستحق كما قيل وهو أولى من تخصيصه بترك العقاب وإن وقع بعد { شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ } وكون الثواب موعوداً فصار كالواجب فلا يكون فضلاً ليس بشيء فإن الوعد به ليس بواجب، وفسره ابن عباس بالسعة والغنى، وقتادة بالنعم، وابن زيد بالقدرة. ((وتوسيط الواو بين { غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ } لإفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل سبحانه توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات وأن يجعلها محاءة للذنب كأنه لم يذنب كأنه قيل: جامع المغفرة والقبول)) قاله الزمخشري، ووجه كما في «الكشف» أنها صفات متعاقبة بدون الواو دالة على معنى الجمع المطلق من مجرد الإجراء فإذا خصت بالواو إحدى القرائن دل على أن المراد المعتبر فيها وفيما تقدمها خاصة صوناً لكلام البليغ عن الإلغاء، ففي الواو هنا الدلالة على أنه سبحانه جامع بين الغفران وقبول التوب للتائب خاصة، ولا ينافي ذلك أنه عز وجل قد يغفر لمن لم يتب، وما قيل: إن التوسيط يدل على أن المعنى كما أخرج أبو الشيخ في «العظمة» عن الحسن (غافر الذنب) لمن لم يتب و(قابل التوب) لمن تاب فغير مسلم، والتغاير الذي يذكرونه بين موقع الفعلين وهما غفران الذنب وقبول التوبة عنه المقتضي لكون الغفران بالنسبة إلى قوم والقبول بالنسبة إلى آخرين إذ جعلوا موقع الأول الذنب الباقي في الصحائف من غير مؤاخذة وموقع الثاني الذنب الزائل الممحو عنها حاصل مع الإجراء فلا مدخل للواو، ثم ما ذكر من الوجه السابق جار على أصلي أهل السنة والمعتزلة فلا وجه لرده بما ليس بقادح وإيثار ما هو مرجوح، وتقديم الغافر على القابل من باب تقديم التخلية على التحلية فافهم.

وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة. وفي «البحر» ((الظاهر من الآية أن توبة العاصي بغير الكفر كتوبة العاصي به مقطوع بقبولها)). وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفاته تعالى الدالة على الرحمة دليل على زيادة الرحمة وسبقها فسبحانه من إله ما أرحمه وأكرمه.

{ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } فيجب الإقبال الكلي على طاعته في أوامره ونواهيه { إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } فحسب لا إلى غيره تعالى لا استقلالاً ولا اشتراكاً فيجازي كلاً من المطيع والعاصي. وجملة { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } مستأنفة أو حالية، وقيل: صفة لله تعالى أو لشديد / العقاب.

وفي الآيات مما يقتضي الاتعاظ ما فيها. أخرج عبد بن حميد عن يزيد بن الأصم أن رجلاً كان ذا بأس وكان من أهل الشام وأن عمر رضي الله تعالى عنه فقده فسأل عنه فقيل له: تتابع في الشراب فدعا عمر كاتبه فقال له: اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو بسم الله الرحمن الرحيم { حـمۤ } إلى قوله تعالى { إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } وختم الكتاب، وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحياً ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني ربـي أن يغفر لي وحذرني عقابه فلم يبرح يرددها على نفسه حتى بكى ثم نزع فأحسن النزوع فلما بلغ عمر توبته قال: هكذا فافعلوا إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه ووقفوه وادعوا الله تعالى أن يتوب عليه ولا تكونوا أعواناً للشياطين عليه.