التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ
٧
-غافر

روح المعاني

{ ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ } وهو جسم عظيم له قوائم، الكرسي وما تحته بالنسبة إليه كحلقة في فلاة. / وفي بعض الآثار «خلق الله تعالى العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام». وذكر بعضهم في سعته أنه لو مسح مقعره بجميع مياه الدنيا مسحاً خفيفاً لقصرت عن استيعابه ويزعم أهل الهيئة ومن وافقهم أنه كري وأنه المحدد وفلك الأفلاك وأنه كسائر الأفلاك لا يوصف بثقل ولا خفة وليس لهم في ذلك خبر يعول عليه بل الأخبار ظاهرة في خلافه.

والظاهر أن الحمل على حقيقته وحملته ملائكة عظام. أخرج أبو يعلى وابن مردويه بسند صحيح عن أبـي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أذن لي أن أحدث عن ملك قد مرقت رجلاه الأرض السابعة السفلى والعرش على منكبيه وهو يقول: سبحانك أين كنت وأين تكون" . وأخرج أبو داود وجماعة بسند صحيح عن جابر بلفظ "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام" وهم على ما في بعض الآثار ثمانية. أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي في «شعب الإيمان» عن هٰرون بن رباب قال: حملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت رخيم يقول أربعة منهم سبحانك وبحمدك على حلمك بعد عفوك وأربعة منهم سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك. وأخرج أبو الشيخ وابن أبـي حاتم من طريق أبـي قبيل أنه سمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: حملة العرش ثمانية ما بين موق أحدهم إلى مؤخر عينيه مسيرة خمسمائة عام، وفي بعض الآثار أنهم اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية. أخرج أبو الشيخ عن وهب قال: حملة العرش أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدوا بأربعة آخرين، ملك منهم في صورة إنسان يشفع لبني آدم في أرزاقهم، وملك منهم في صورة نسر يشفع للطير في أرزاقهم، وملك منهم في صورة ثور يشفع للبهائم في أرزاقهم، وملك منهم في صورة أسد يشفع للسباع في أرزاقهم فلما حملوا العرش وقعوا على ركبهم من عظمة الله تعالى فلقنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستووا قياماً على أرجلهم. وجاء رواية عن وهب أيضاً أنهم يحملون العرش على أكتافهم وهو الذي يشعر به ظاهر خبر أبـي هريرة السابق. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن حبان بن عطية قال: حملة العرش ثمانية أقدامهم مثبتة في الأرض السابعة ورؤوسهم قد جاوزت السماء السابعة وقرونهم مثل طولهم عليها العرش. وفي بعض الآثار أنهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وفي بعض لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور، وهم على ما أخرج ابن أبـي شيبة عن أبـي أمامة يتكلمون بالفارسية أي إذا تكلموا بغير التسبيح وإلا فالظاهر أنهم يسبحون بالعربية، على أن الخبر الله تعالى أعلم بصحته، وفي بعض الآثار عن وهب أنهم ليس لهم كلام إلا أن يقولوا قدوس الله القوي ملأت عظمته السماوات والأرض، وما سيأتي إن شاء الله تعالى بعيد هذا في الآية يأبـى ظاهر الحصر.

{ وَمَنْ حَوْلَهُ } أي والذين من حول العرش وهم ملائكة في غاية الكثرة لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى. وقيل: حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وذكر في كثرتهم / أن مخلوقات البر عشر مخلوقات البحر والمجموع عشر مخلوقات الجو والمجموع عشر ملائكة السماء الدنيا والمجموع عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة والمجموع عشر ملائكة الكرسي والمجموع عشر الملائكة الحافين بالعرش، ولا نسبة بين مجموع المذكور وما يعلمه الله تعالى من جنوده سبحانه: { { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ } [المدثر: 31].

ويقال لحملة العرش والحافين به الكَروبيون جمع كَروبـي بفتح الكاف وضم الراء المهملة المخففة وتشديدها خطأ ثم واو بعدها باء موحدة ثم ياء مشددة من كرب بمعنى قرب، وقد توقف بعضهم في سماعه من العرب وأثبته أبو علي الفارسي واستشهد له بقوله:

كروبية منهم ركوعٌ وسُجَّدٌ

وفيه دلالة على المبالغة في القرب لصيغة فعول والياء التي تزاد للمبالغة، وقيل: من الكرب بمعنى الشدة والحزن وكأن وصفهم بذلك لأنهم أشد الملائكة خوفاً.

وزعم بعضهم أن الكروبيين حملة العرش وأنهم أول الملائكة وجوداً ومثله لا يعرف إِلا بسماع. وعن البيهقي أنهم ملائكة العذاب وكأن ذلك إطلاق آخر من الكرب بمعنى الشدة والحزن، وقال ابن سيناء في «رسالة»: الملائكة الكروبيون هم العامرون لعرصات التيه الأعلى الواقفون في الموقف الأكرم زمراً الناظرون إلى المنظر الأبهى نظراً وهم الملائكة المقربون والأرواح المبرؤون، وأما الملائكة العاملون فهم حملة العرش والكرسي وعمار السماوات انتهى.

وذهب بعضهم إلى أن حمل العرش مجاز عن تدبيره وحفظه من أن يعرض له ما يخل به أو بشيء من أحواله التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، وجعلوا القرينة عقلية لأن العرش كري في حيزه الطبيعي فلا يحتاج إلى حمل ونسب ذلك إلى الحكماء وأكثر المتكلمين، وكذا ذهبوا إلى أن الحفيف والطواف بالعرش كناية أو مجاز عن القريب من ذي العرش سبحانه ومكانتهم عنده تعالى وتوسطهم في نفاذ أمره عز وجل، والحق الحقيقة في الموضعين؛ وما ذكر من القرينة العقلية في حيز المنع.

وقرأ ابن عباس وفرقة { العرش } بضم العين فقيل: هو جمع عرش كسقف وسقف أو لغة في العرش، والموصول الأول مبتدأ والثاني عطف عليه والخبر قوله تعالى: { يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } والجملة استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان أن الملائكة الذين هم في المحل الأعلى مثابرون على ولاية من معه من المؤمنين ونصرتهم واستدعاء ما يسعدهم في الدراين أي ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل - كالجسمية وكون العرش حاملاً له عز وجل - ملتبسين بحمده جل شأنه على نعمائه التي لا تتناهى.

{ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } إيماناً حقيقياً كاملاً، والتصريح بذلك مع الغنى عن ذكره رأساً لإظهار فضيلة الإيمان وإبراز شرف أهله والإشعار بعلة دعائهم للمؤمنين حسبما ينطق به قوله تعالى: { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } فإن المشاركة في الإيمان أقوى المناسبات وأتمها وأدعى الدواعي إلى النصح والشفقة وإن تخالفت الأجناس وتباعدت الأماكن، وفيه على ما قيل: إشعار بأن حملة العرش وسكان الفرش سواء في الإيمان بالغيب إذ لو كان هناك مشاهدة للزومها من الحمل بناء على العادة الغالبة أو على أن العرش جسم شفاف لا يمنع الأبصار البتة لم يقل يؤمنون لأن الإيمان هو التصديق القلبـي أعني العلم أو ما يقوم مقامه مع اعتراف وإنما يكون في الخبر ومضمونه من معتقد علمي أو ظني ناشىء من البرهان أو قول الصادق كأنه اعترف بصدق المخبر أو البرهان / وأما العيان فيغني عن البيان، ففي ذلك رمز إلى الرد على المجسمة، ونظيره في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تفضلوني على ابن متى" كذا قيل، وينبغي أن يعلم أن كون حملة العرش لا يرونه عز وجل بالحاسة لا يلزم منه عدم رؤية المؤمنين إياه تعالى في الدار الآخرة.

{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً } على إرادة القول أي يقولون ربنا الخ، والجملة لا محل لها من الإعراب على أنها تفسير ليستغفرون أو في محل رفع على أنها عطف بيان على تلك الجملة بناء على جوازه في الجمل أو في محل نصب على الحالية من الضمير في { يَسْتَغْفِرُونَ }. وفسر استغفارهم على هذا الوجه بشفاعتهم للمؤمنين وحملهم على التوبة بما يفيضون على سرائرهم، وجوز أن يكون الاستغفار في قوله تعالى: { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى ٱلأَرْضِ } [الشورى: 5] المفسر بترك معاجلة العقاب وإدرار الرزق والارتفاق بما خلق من المنافع الجمة ونحو ذلك وهو وإن لم يخص المؤمنين لكنهم أصل فيه فتخصيصهم هنا بالذكر للإشارة إلى ذلك، والأظهر كون الجملة تفسيراً، ونصب { رَّحْمَةً وَعِلْماً } على التمييز وهو محول عن الفاعل والأصل وسعت رحمتك وعلمك كل شيء وحول إلى ما في النظم الجليل للمبالغة في وصفه عز وجل بالرحمة والعلم حيث جعلت ذاته سبحانه كأنها عين الرحمة والعلم مع التلويح إلى عمومها لأن نسبة جميع الأشياء إليه تعالى مستوية فتقتضي استواءها في شمولهما، ووصفه تعالى بكمال الرحمة والعلم كالتمهيد لقوله سبحانه: { فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ } الخ، وتسبب المغفرة عن الرحمة ظاهر، وأما تسببها عن العلم فلأن المعنى فاغفر للذين عملت منهم التوبة أي من الذنوب مطلقاً بناء على أنه المتبادر من الإطلاق واتباع سبيلك وهو سبيل الحق التي نهجها الله تعالى لعباده ودعا إليها الإسلام أي علمك الشامل المحيط بما خفي وما علن يقتضي ذلك، وفيه تنبيه على طهارتهم من كدورات الرياء والهوى فإن ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى وحده. ويتضمن التمهيد المذكور الإشارة إلا أن الرحمة الواسعة والعلم الشامل يقتضيان أن ينال هؤلاء الفوز العظيم والقسط الأعلى من الرضوان وفيه إيماء إلى معنى:

إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما

فإن العبد وإن بالغ حق المبالغة في أداء حقوقه تعالى فهو مقصر، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته" وتقديم الرحمة لأنها المقصودة بالذات هٰهنا، وفي تصدير الدعاء بربنا من الاستعطاف ما لا يخفى ولذا كثر تصدير الدعاء به.

وقوله تعالى: { وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } أي واحفظهم عنه تصريح بعد تلويح للتأكيد فإن الدعاء بالمغفرة يستلزم ذلك، وفيه دلالة على شدة العذاب.