التفاسير

< >
عرض

فَقَضَٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ
١٢
-فصلت

روح المعاني

وقَوْلَه تعالى: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوٰتٍ فِي يَوْمَيْنِ } تفسيراً وتفصيلاً لتكوين السماء المجمل المعبر عنه بالأمر وجوابه، لا أنه فعل مترتب على تكوينهما أي خلقهن خلقاً إبداعياً وأتقن أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة في وقتين. وضمير { هُنَّ } إما للسماء على المعنى لأنه بمعنى السمٰوات ولذا قيل: هو اسم جمع ـ فسبع ـ حال من الضمير، وإما مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز فهو له وإن تأخر لفظاً ورتبة لجوازه في التمييز نحو ربه رجلاً وهو وجه عربـي. وقال أبو حيان: ((انتصب { سَبْعَ } على الحال وهو حال مقدرة))، وقال بعضهم: بدل من الضمير، وقيل: مفعول به والتقدير قضى منهن سبع سمٰوات، وقال الحوفي: على أنه مفعول ثان على تضمين القضاء معنى التصيير ولم يذكر مقدار زمن خلق الأرض وخلق ما فيها اكتفاء بذكره في بيان تقديرهما.

وقَوْلَه تعالى: { وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا } عطفاً على { قَضَاهُنَّ } أي خلق في كل منها ما استعدت له واقتضت الحكمة أن يكون فيها من الملائكة والنيرات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى كما يقتضيه كلام السدي وقتادة فالوحي عبارة عن التكوين كالأمر مقيد بما قيد به المعطوف عليه من الوقت أو أوحى إلى أهل كل منها أوامره وكلفهم / ما يليق بهم من التكاليف كما قيل، فالوحي بمعناه المشهور من بين معانيه ومطلق عن القيد المذكور أو مقيد به فيما أرى، واحتمال التقييد والإطلاق جار في قوله تعالى: { وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَاء ٱلدُّنْيَا بِمَصَـٰبِيحَ } أي من الكواكب وهي فيها وإن تفاوتت في الارتفاع والانخفاض على ما يقتضيه الظاهر أو بعضها فيها وبعضها فيما فوقها لكنها لكونها كلها ترى متلألئة عليها صح كون تزيينها بها، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية، وأما قوله تعالى: { وَحِفْظاً } فهو مفعول مطلق لفعل مقدر معطوف على قوله تعالى: { زَيَّنَّا } أي وحفظناها حفظاً، والضمير للسماء وحفظها إما من الآفات أو من الشياطين المسترقة للسمع وتقدم الكلام في ذلك، وقيل الضمير للمصابيح وهو خلاف الظاهر، وجوز كونه مفعولاً لأجله على المعنى أي معطوفاً على مفعول له يتضمنه الكلام السابق أي زينة وحفظاً، ولا يخفى أنه تكلف بعيد لا ينبغي القول به مع ظهور الأول وسهولته كما أشار في «البحر» وجَعَلَ قوله تعالى: { ذٰلِكَ } إشارة إلى جميع الذي ذكر بتفاصيله أي ذلك المذكور { تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ }. أي البالغ في القدرة والبالغ في العلم.

ثم قال صاحب «الإرشاد» بعد ما سمعت مما حُكِي عنه: ((فعلى هذا لا دلالة في الآية الكريمة على الترتيب بين إيجاد الأرض وإيجاد السماء وإنما الترتيب بين التقدير أي تقدير إيجاد الأرض وما فيها وإيجاد السماء، وأما على تقدير كون الخلق وما عطف عليه من الأفعال الثلاثة على معانيها الظاهرة فهي تدل على تقدم خلق الأرض وما فيها وعليه إطباق أكثر أهل التفسير))، ولا يخفى عليك ان حمل تلك الأفعال على ما حملها عليه خلاف الظاهر كما هو مقر به، وعدم التعرض لخلق الأرض وما فيها بالفعل كما تعرض لخلق السمٰوات كذلك لا يلائم دعوى الاعتناء التي أشار إليها في بيان وجه تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وما فيها على أن خلق ما فيها بالفعل غير ظاهر من قوله تعالى: { { فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [فصلت: 11] لا سيما وقد ذكرت الأرض قبل مستقلة وذكر ما فيها مستقلاً فلا يتبادر من الأرض هنا إلا تلك الأرض المستقلة لا هي مع ما فيها، وأمر تقدم خلق الأرض وتأخره سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه.

وقيل: إن إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة وفيه جمع بين معنيين مجازيين حيث شبه البروز من العدم وبسط الأرض وتمهيدها بالإتيان من مكان آخر وفي صحة الجمع بينهما كلام على أن في كون الدحو مؤخراً عن جعل الرواسي كلاماً أيضاً ستعرفه إن شاء الله تعالى، وقيل: المراد لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما وأيد بقراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد { آتيا. وقالتا آتينا } على أن ذلك من المواتاة بمعنى الموافقة، قال الجوهري: تقول آتيته على ذلك الأمر مواتاة إذا وافقته وطاوعته لأن المتوافقين يأتي كل منهما صاحبه وجعل ذلك من المجاز المرسل وعلاقته اللزوم، وقال ابن جني: هي المسارعة وهو حسن أيضاً ولم يجعله أكثر الأجلة من الإيتاء لأنه غير لائح وجعله ابن عطية منه وقدر المفعول أي أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما وما تقدم أحسن وما أسلفناه في أول الأوجه من الكلام يأتي نحوه هنا كما لا يخفى.

واختلف الناس في أمر التقدم والتأخر في خلق كل من السمٰوات وما فيها والأرض وما فيها وذلك للآيات والأحاديث التي ظاهرها التعارض فذهب بعض إلى تقدم خلق الأرض لظاهر هذه الآية حيث ذكر فيها أولاً خلق الأرض وجعل الرواسي فيها وتقدير الأقوات ثم قال سبحانه: { ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاءِ } [فصلت: 11] الخ وأبـى أن يكون الأمر بالإتيان للأرض أمر تكوين، ولظاهر قوله تعالى في آية البقرة: { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَاتٍ } [البقرة: 29] وأول آية النازعات أعني قوله تعالى: { { أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَاءُ بَنَـٰهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَـٰهَا * وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـٰهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَـٰهَا * وَٱلْجِبَالَ أَرْسَـٰهَا * مَتَـٰعاً لَّكُمْ وَلأَِنْعَـٰمِكُمْ } [النازعات: 27-33] لما أن ظاهره يدل على تأخر خلق الأرض وما فيها من الماء والمرعى والجبال لأن { ذٰلِكَ } إشارة إلى السابق وهو رفع السمك والتسوية، و(الأرض) منصوب بمضمر على شريطة التفسير أي ودحا الأرض بعد رفع السماء وتسويتها دحاها الخ بأن الأرض منصوب بمضمر نحو تذكر وتدبر أو اذكر الأرض بعد ذلك لا بمضمر على شريطة التفسير أو به و{ بَعْدَ ذَلِكَ } إشارة إلى المذكور سابقاً من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء تنبيهاً على أنه قاصر في الأول لكنه تتميم كما تقول جملاً ثم تقول بعد ذلك كيت وكيت وهذا كثير في استعمال العرب والعجم، وكأن { بَعْدَ ذَلِكَ } بهذا المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي الرتبة والتعظيم؛ وقد تستعمل (ثم) أيضاً بهذا المعنى وكذا الفاء، وبعضهم يذهب في الجواب إلى ما قاله ابن عباس. فقد روى الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: رأيت أشياء تختلف علي في القرآن قال: هات ما اختلف عليك من ذلك فقال: أسمع الله تعالى يقول: { { أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ } [فصلت: 9] حتى بلغ { طَائِعِينَ } [فصلت: 11] فبدأ بخلق الأرض في هذه الآية قبل خلق السماء ثم قال سبحانه في الآية الأخرى: { { أَمِ ٱلسَّمَاءُ بَنَـٰهَا } [النازعات: 27] ثم قال { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـٰهَا } [النازعات: 30] فبدأ جل شأنه بخلق السماء قبل خلق الأرض. فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أما خلق الأرض في يومين فإن الأرض خلقت قبل السماء وكانت السماء دخاناً فسواهن سبع سمٰوات في يومين بعد خلق الأرض، وأما قوله تعالى: { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـٰهَا } يقول جعل فيها جبلاً وجعل فيها نهراً وجعل فيها شجراً وجعل فيها بحوراً انتهى.

قال الخفاجي: يعني أن قوله تعالى: { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا } بدل أو عطف بيان لدحاها بمعنى بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها في هذه الآية ليس بمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر خلق ما فيها وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والانتفاع به فإن البعدية كما تكون باعتبار نفس الشيء تكون باعتبار جزئه الأخير وقيده المذكور كما لو قلت: بعثت إليك رسولاً ثم كنت بعثت فلاناً لينظر ما يبلغه فبعث الثاني وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر عنه فجعل نفسه متأخراً. فإن قلت: كيف هذا مع ما رواه ابن جرير وغيره وصححوه عن ابن عباس أيضاً أن اليهود أتت النبـي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السمٰوات والأرض فقال عليه الصلاة والسلام: "خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والإثنين وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة فقال تعالى: { أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَـٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوٰتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لّلسَّائِلِينَ } [فصلت: 9ـ10] وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة" فإنه يخالف الأول لاقتضائه خلق ما في الأرض من الأشجار والأنهار ونحوها قبل خلق السماء قلت: الظاهر حمله على أنه خلق فيما ذكر مادة ذلك وأصوله إذ لا يتصور العمران والخراب قبل خلق السماء فعطفه عليه قرينة لذلك فلا تعارض بين الحديثين كما أنه ليس بين الآيات اختلاف انتهى كلام الخفاجي.

ولا يخفى أن قول ابن عباس / السابق نص في أن جعل الجبال في الأرض بعد خلق السماء وهو ظاهر آية النازعات إذ كان { بَعْدَ ذَلِك } معتبراً في قوله تعالى: { وَٱلْجِبَالَ أَرْسَـٰهَا } [النازعات: 32] وآية حم السجدة ظاهرة في أن جعل الجبال قبل خلق السمٰوات، ثم إن رواية ابن جرير المذكورة عنه مخالفة لخبر مسلم "عن أبـي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل" . واستدل في «شرح المهذب» بهذا الخبر على أن السبت أول أيام الأسبوع دون الأحد ونقله عن أصحابه الشافعية وصححه الأسنوي وابن عساكر، وقال العلامة ابن حجر: هو الذي عليه الأكثرون وهو مذهبنا يعني الشافعية كما في «الروضة» وأصلها بل قال السهيلي في «روضه» لم يقل بأن أوله الأحد إلا ابن جرير، وجرى النووي في موضع على ما يقتضي أن أوله الأحد فقال: في يوم الإثنين سمي به لأنه ثاني الأيام. وأجيب بأنه جرى في توجيه التسمية المكتفى فيه بأدنى مناسبة على القول الضعيف. وانتصر القفال من الشافعية لكون أوله الأحد بأن الخبر المذكور تفرد به مسلم وقد تكلم عليه الحفاظ علي ابن المديني والبخاري وغيرهما وجعلوه من كلام كعب وأن أبا هريرة إنما سمعه منه ولكن اشتبه على بعض الرواة فجعله مرفوعاً. وأجيب بأن من حفظ الرفع حجة على من لم يحفظه والثقة لا يرد حديثه بمجرد الظن ولأجل ذلك أعرض مسلم عما قاله أولئك واعتمد الرفع وخرج طريقه في «صحيحه» فوجب قبولها. وذكر أحمد بن المقَّري المالكي أن الإمام أحمد رواه أيضاً في «مسنده» عن أبـي هريرة مرفوعاً بلفظ شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وقال: "خلق الله تعالى الأرض يوم السبت" الحديث، وفي «الدر المنثور» عدة أخبار عن ابن عباس ناطقة بأن مبدأ خلق الأرض كان يوم الأحد، وفيه أيضاً أخرج ابن جرير عن أبـي بكر رضي الله تعالى عنه قال: «جاء اليهود إلى النبـي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا ما خلق الله تعالى من الخلق في هذه الأيام الستة فقال: خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والإثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء وخلق السمٰوات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات يعني من يوم الجمعة وخلق في أول ساعة الآجال وفي الثانية الآفة وفي الثالثة آدم قالوا: صدقت إن تممت فعرف النبـي صلى الله عليه وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله تعالى { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُون } [ق: 38-39]».

واليهود قاطبة على أن أول الأسبوع يوم الأحد احتجاجاً بما يسمونه التوراة وظاهر الاشتقاق يقتضي ذلك. ومن ذهب إلى أن الأول السبت قال: لا حجة في ذلك لأن التسمية لم تثبت بأمر من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم فلعل اليهود وضعوا أسماء الأسبوع على ما يعتقدون فأخذتها العرب عنهم ولم يرد في القرآن إلا الجمعة والسبت وليسا من أسماء العدد على أن هذه التسمية لو ثبتت عن العرب لم يكن فيها دليل لأن العرب تسمي خامس الورد ربعاً وتاسعه عشراً وهذا هو الذي أخذ منه ابن عباس قوله الذي كاد ينفرد به أن يوم عاشوراء هو يوم تاسع المحرم وتاسوعاء هو يوم ثامنه، ولا يخفى أن الجواب الأول خارج عن الإنصاف فلأيام الأسبوع عند العرب أسماء أخر فيها ما يدل على ذلك أيضاً، وهي أول وأهون وجبار ودبار ومؤنس وعروبة وشيار، ولا يسوغ لمنصف أن يظن أن العرب تبعوا في ذلك اليهود وجاء الإسلام وأقرهم على ذلك، وليت شعري إذا كانت تلك الأسماء وقعت متابعة لليهود فما الأسماء الصحيحة التي وضعها واضع / لغة العرب غير تابع فيها لليهود، والجواب الثاني خلاف الظاهر جداً.

ونقل الواحدي في «البسيط» عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلاً عن دحوها واختاره الإمام ونسبه بعضهم إلى المحققين من المفسرين وأولوا الآية بأن الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد بل هو عبارة عن التقدير، والمراد به في حقه تعالى حكمه تعالى أن سيوجد وقضاؤه عز وجل بذلك مثله في قوله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [آل عمران: 59] ولا بد على هذا من تأويل { جَعَلَ } و { بَارَكَ } [فصلت: 10] بنحو ما سمعت عن «الإرشاد»، وجوز أن يبقى { خَلَقَ } وكذا ما بعده على ما يتبادر منه ويكون الكلام على إرادة الإرادة كما في قوله تعالى: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } [المائدة: 6] أي بالذي أراد خلق الأرض في يومين وأراد أن يجعل فيها رواسي وقالوا: إن (ثم) للتفاوت في الرتبة المنزلة منزلة التراخي الزماني كما في قوله تعالى: { { ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } [البلد: 17] فإن اسم (كان) ضمير يرجع إلى فاعل { فَلاَ ٱقتَحَمَ } [البلد: 11] وهو الإنسان الكافر وقوله سبحانه: { فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } [البلد: 13-16] تفسير للعقبة، والترتيب الظاهري يوجب تقديم الإيمان عليه لكن (ثم) هنا للتراخي في الرتبة مجازاً. وفي «الكشف»: إن ما نقله الواحدي لا إشكال فيه ويتعين { ثُمَّ } في هذه السورة والسجدة على تراخي الرتبة وهو أوفق لمشهور قواعد الحكماء لكن لا يوافق ما جاء من أن الابتداء من يوم الأحد كان، وخلق السمٰوات وما فيها من يوم الخميس والجمعة وفي آخر يوم الجمعة ثم خلق آدم عليه السلام.

وفي «البحر» الذي نقوله: إن الكفار وبخوا وقرعوا بكفرهم بمن صدرت عنه هذه الأشياء جميعها من غير ترتيب زماني وأن { ثُمَّ } لترتيب الإخبار لا لترتيب الزمان والمهلة كأنه قال سبحانه بالذي أخبركم أنه خلق الأرض وجعل فيها رواسي وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ثم أخبركم أنه استوى إلى السماء فلا تعرض في الآية لترتيب الوقوع الترتيب الزماني، ولما كان خلق السماء أبدع في القدرة من خلق الأرض استؤنف الإخبار فيه بثم فهي لترتيب الإخبار كما في قوله تعالى: { ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } [البلد: 17]بعد قوله سبحانه: { { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } [البلد: 11] وقوله تعالى: { ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ } [الأنعام: 154] بعد قوله عز وجل: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ } [الأنعام: 151] ويكون قوله جل شأن { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ } [فصلت: 11] بعد إخباره تعالى بما أخبر به تصويراً لخلقهما على وفق إرادته تعالى كقولك أرأيت الذي أثنيت عليه فقلت له إنك عالم صالح فهذا تصوير لما أثنيت به وتفسير له فكذلك أخبر سبحانه بأنه خلق كيت وكيت فأوجد ذلك إيجاداً لم يتخلف عن إرادته انتهى.

وظاهر ما ذكره في قوله تعالى: { فَقَالَ لَهَا } الخ أن القول بعد الإيجاد، وقال بعض الأجلة يجوز أن يكون ذلك للتمثيل أو التخييل للدلالة على أن السماء والأرض محلا قدرته تعالى يتصرف فيهما كيف يشاء إيجاداً وإكمالاً ذاتاً وصفة ويكون تمهيداً لقوله سبحانه: { فَقَضَاهُنَّ } أي لما كان الخلق بهذه السهولة قضى السمٰوات وأحكم خلقها في يومين فيصح هذا القول قبل كونهما وبعده، وفي أثنائه إذ ليس الغرض دلالة على وقوع.

وذكر في نكتة تقديم خلق الأرض وما فيها في الذكر هٰهنا وفي سورة البقرة على خلق السمٰوات والعكس في سورة النازعات أنها يجوز أن يكون أن المقام في الأوليين مقام الامتنان وتعداد النعم فمقتضاه تقديم ما هو أقرب النعم إلى المخاطبين والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها، وروى عن الحسن أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السمٰوات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض، وذلك قوله تعالى: { { كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } [الأنبياء: 30] الآية.

وجعله بعضهم دليلاً على تأخر دحو الأرض عن خلق السماء، وفي «الإرشاد» أنه ليس نصاً في ذلك فإن بسط / الأرض معطوف على إصعاد الدخان وخلق السماء بالواو فلا دلالة في ذلك على الترتيب قطعاً. وفي «الكشف» أنه يدل على أن كون السماء دخاناً سابق على دحو الأرض وتسويتها بل ظاهر قوله تعالى: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت: 11] يدل على ذلك، وإيجاد الجوهرة النورية والنظر إليها بعين الجلال المبطن بالرحمة والجمال وذويها وامتياز لطيفها عن كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة وبقاء الكثيف هذا كله سابق على الأيام الستة وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات واختار بعضهم أن خلق المادة البعيدة للسماء والأرض كان في زمان واحد وهي الجوهرة النورية أو غيرها وكذا فصل مادة كل عن الأخرى وتمييزها عنها أعني الفتق وإخراج الأجزاء اللطيفة وهي المادة القريبة للسمٰوات وإبقاء الكثيفة وهي المادة القريبة للأرض فإن فصل اللطيف عن الكثيف يستلزم فصل الكثيف عنه وبالعكس، وأما خلق كل على الهيئة التي يشاهد بها فليس في زمان واحد بل خلق السمٰوات سابق في الزمان على خلق الأرض، ولا ينبغي لأحد أن يرتاب في تأخر خلق الأرض بجميع ما فيها عن خلق السمٰوات كذلك، ومتى ساغ حمل { ثُمَّ } للترتيب في الإخبار هان أمر ما يظن من التعارض في الآيات والأخبار هذا والله تعالى أعلم.

ولبعض المتأخرين في الآية كلام غريب دفع به ما يظن من المنافاة بين الآيات الدالة على أن خلق السمٰوات والأرض وما بينهما في ستة أيام كقوله تعالى: { { ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [السجدة: 4] وقوله سبحانه: { { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ق: 38] وهذه الآية التي يخيل منها أن خلق ذلك في ثمانية أيام وهو أن للشيء حكماً من حيث ذاته ونفسه حكماً من حيث صفاته وإضافاته ونسبه وروابطه واقتضاءاته ومتمماته وسائر ما يضاف إليه ولكل من ذلك أجل معدود وحد محدود يظهره سبحانه في ذلك بالأزمان الخاصة به والأوقات المؤجلة له وهي متفاوتة مختلفة، والله تعالى خلق السمٰوات والأرض وما بينهما في حد ذاتها في ستة أيام، وذلك عند نشئها في ذاتها من خلقه سبحانه إياها من البحر الحاصل من ذوبان الياقوتة الحمراء لما نظر إليها جل شأنه بنظر الهيبة فتموج إلى أن حصل منه الزبد وثار الدخان فخلق السماء من الدخان والأرض من الزبد والنجوم من الشعلات المستجنة في زبد البحر والنار والهواء والماء من جسم أكثف من الدخان وألطف من الزبد، والسماء حقيقة وحدانية في ذاتها ولها صلاحية التعدد والكثرة على حسب بدو شأنها في علم الغيب فتعينها بالسبعة على الجهة الخاصة ووقوع كل سماء في محلها الخاص مترتباً عليها حكم خاص يحتاج إلى جعل غير جعلها في نفسها وهو المسمى بالقدر وتعيين الحدود التي هي الهندسة الإيجادية، وهذا لجعل متفرع على الخلق ونحوه غير نحوه قطعاً كما يشعر به قوله تعالى: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [الفرقان: 2] وقد يسمى بالتسوية وبالقضاء أيضاً كما في قوله تعالى: { { ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ } [البقرة: 29] وقوله تعالى هنا: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت: 11] إلى قوله سبحانه: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ } [فصلت: 12] وأما تقدير أقوات الأرض وإعطاء البركة وتوليد المتولدات فلها أيام معدودات وحدود محدودات لا تدخل في أيام خلق السمٰوات والأرض لأنها لإيجاد أنفسها، فالأيام الأربعة المذكورة في الآية إنما هي لجعل الرواسي وتقدير الأقوات وإحداث البركة وليست من تلك الستة وكذلك اليومان اللذان لتسوية السماء وقضائها سبع سمٰوات خارجان عنها فليس في الآية التي الكلام فيها سوى أن خلق الأرض كان في يومين وأما خلق السمٰوات وما بينها وبين الأرض فلم يذكر في الآية مدة له وإنما ذكر مدة قضاء السمٰوات وهو غير خلقها ومدة جعل الرواسي وتقدير الأقوات وإحداث البركة وذلك غير خلق الأرض وما بينها وبين السماء فلا تنافي بينها وبين الآيات الدالة على أن خلق السمٰوات / والأرض وما بينهما في ستة أيام، ولا يعكر على ذلك ما روي عن الصادق أن الله سبحانه خلق في يوم الأحد والإثنين الأرضين وخلق أقواتها في يوم الثلاثاء وخلق السمٰوات في يوم الأربعاء ويوم الخميس وخلق أقواتها يوم الجمعة وذلك قول الله سبحانه: { { خُلِقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [الفرقان: 59] لأنه بعد تسليم صحته المذكور فيه أن الأقوات قد خلقت في يومين لا أنها قدرت وبين الخلق والتقدير بون بعيد؛ فخلق الأقوات عبارة عن إيجاد ذاتياتها وموادها وعللها وأسبابها فإذا وجدت قدرت وفصلت على الأطوار المعلومة فلا إشكال.

والعجب ممن استشكل هذا المقام كيف لم ينظر في مدلولات الألفاظ الإلهية بحسب القواعد القرآنية واللغوية فاحتاج في حله إلى تكلفات أمور خفية وارتكاب توجيهات غير مرضية، ثم إن هذا البعض ذكر لليوم ما يزيد على ستين إطلاقاً منها المرتبة ونقل هذا عن شيخه ورأيته في بعض الكتب لغيره، وجواز إرادته في الآية وكذا جوز إرادة غيره من الإطلاقات، وذكر سر كون خلق السمٰوات والأرض في ستة أيام وأطال الكلام في هذا المقام، وكان ذلك ضمن رسالة ألفها حين طلبت منه جواباً عما يظن من المنافاة غير ما ذكروه من الجواب عن ذلك، ومن وقف على تلك الرسالة منها قعقعة بلا سلاح وأحس بطيران في جو ما يزعمه تحقيقاً بلا جناح فكم فيها من قول لا سند له ومدعى لم يورد دليله، فعليك بالتأمل التام فيما ذكره المفسرون وما ذكره هذا الرجل من الكلام ولا تك للإنصاف مجانباً وللتعصب مصاحباً والله تعالى الموفق.

وما تقدم من حمل قوله تعالى: { { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [فصلت: 11]على التمثيل هو ما ذهب إليه جماعة من المفسرين، وقالت طائفة: إنهما نطقتا نطقاً حقيقياً وجعل الله تعالى لهما حياة وإدراكاً، قال ابن عطية: وهذا أحسن لأنه لا شيء يدفعه وإن العبرة فيه أتم والقدرة فيه أظهر، ولا يخفى أن المعنى الأول أبلغ، ومن ذهب إلى أن للجمادات إدراكاً لائقاً بها قال بظاهر الآية ولعلها إحدى أدلته على ذلك. وذكر بعضهم في قوله سبحانه: { وَأَوْحَىٰ فِي كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا } أنه سبحانه خص كل سماء بما ميزها عن السماء الأخرى من الذاتيات وجعل ذلك وجهاً في جمع السمٰوات وإفراد الأرض.

وقرأ الأعمش { أو كرهاً } بضم الكاف، قال أبو حيان: ((والأصح أنها لغة في الإكراه على الشيء، والأكثر على أن الكره بالضم معناه المشقة)).