التفاسير

< >
عرض

أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ
٥٤
-فصلت

روح المعاني

{ أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مّن لّقَاء رَبّهِمْ } أي في شك عظيم من ذلك بالبعث لاستبعادهم إعادة الموتى بعد تبدد أجزائهم وتفرق أعضائهم فلا يلتفتون إلى أدلة ما ينفعهم عند لقائه تعالى كحقية القرآن لأنه صريح في أن عدم الكفاية معتبر بالنسبة إليهم.

وقوله تعالى: { أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شَيْء مُّحِيطُ } لبيان ما يترتب على تلك المرية بناء على أن المعنى أنه تعالى عالم بجميع الأشياء على أكمل وجه فلا يخفى عليه جل وعلا خافية منهم فيجازيهم جل جلاله على كفرهم ومريتهم لا محالة. وقيل: دفع لمريتهم وشكهم في البعث وإعادة ما تفرق واختلط مما يتوهمون عدم إمكان تمييزه أي أنه تعالى عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها مقتدر عليها لا يفوته شيء منها فهو سبحانه يعلم الأجزاء ويقدر على البعث.

هذا وما ذكر في تفسير { { سَنُرِيهِمْ ءايَـٰتِنَا فِي ٱلأَفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ } [فصلت: 53] في معنى ما روي عن الحسن ومجاهد والسدي وأبـي المنهال وجماعة قالوا: إن قوله سبحانه: { سَنُرِيهِمْ } الخ وعيد للكفار بما يفتحه الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من الأقطار حول مكة وفي غير ذلك من الأرض كخيبر وأراد بقوله تعالى: { فِي أَنفُسِهِمْ } فتح مكة، وقال الضحاك وقتادة: في الآفاق ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديماً وفي أنفسهم ما كان يوم بدر فإن في ذلك دلالة على نصرة من جاء بالحق وكذب من الأنبياء عليهم السلام فيدل على حقية النبـي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من القرآن. وأورد عليه أن { سَنُرِيهِمْ } يأبى كون ما في الآفاق ما أصاب الأمم المكذبة لكونه مرئياً لهم قبل.

وقال عطاء وابن زيد: إن معنى { سَنُرِيهِمْ ءايَـٰتِنَا فِي ٱلاْفَاقِ } أي أقطار السماء والأرض من الشمس والقمر وسائر الكواكب والرياح والجبال الشامخة وغير ذلك وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، وضعف ذلك الإمام بنحو ما سمعت آنفاً. وأجيب بأن القوم وإن كانوا قد رأوا تلك الآيات إلا أن العجائب التي أودعها الله تعالى فيها مما لا نهاية لها فهو سبحانه يطلعهم عليها زماناً قريباً حالاً فحالاً فإن كل أحد يشاهد بنية الإنسان إلا أن العجائب المودعة في تركيبها لا تحصى وأكثر الناس غافلون عنها فمن حمل على التفكير فيها بالقوارع التنزيلية والتنبيهات الإلهية كلما ازداد تفكراً ازداد وقوفاً فصح معنى الاستقبال.

واختار ذلك صاحب «الكشف» تبعاً لغيره وبين وجه مناسبة الآيات لما قبلها عليه، وجعل ضمير { أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } لله / عز وجل فقال: إن في قوله تعالى: { { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } [الأحقاف: 10] إشعاراً بأن كونه من عنده سبحانه ينافي الكفر به وأنهم مسلمون ذلك لكن يطعنون في كونه من عنده عز وجل ولذا جعل نحو { أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } في جواب قولهم { { مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ } [النحل: 24] أنه إعراض عن كونه منزلاً وجواب بأنه أساطير لا منزل فأريد أن يبين إثبات كونه حقاً من عنده تعالى على سبيل الكناية ليكون أوصل إلى الغرض ويناسب ما بني عليه الكلام من سلوك طريق الإنصاف فقيل: { سَنُرِيهِمْ } أي سيري الله تعالى، والالتفات للدلالة على زيادة الاختصاص وتحقيق ثبوت الإراءة ثم قيل: { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } أي إن الله جل جلاله هو الحق من كل وجه ذاتاً وصفة وقولاً وفعلاً وما سواه باطل من كل وجه لاحق إلا هو سبحانه وإذا تبين لهم حقيته عز شأنه من كل وجه يلزم ثبوت القرآن وكونه من عنده تعالى بالضرورة، ثم قيل: { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ } أي أو لم يكفك شهوده تعالى على كل شيء فمنه سبحانه تشهد كل شيء لا من آيات الآفاق والأنفس تشهده تعالى فالأول استدلال بالأثر على المؤثر والثاني من المؤثر على الأثر وهذا هو اللمي اليقيني. وفي قوله تعالى: { بِرَبِّكَ } مضافاً إلى ضميره صلى الله عليه وسلم وإيثاره على أو لم يكف به إشعار بأنه عليه الصلاة والسلام وأتباعه من كل العارفين هم الذين يكفيهم شهوده على كل شيء دليلاً وأن ذلك لهم نفس عنايته تعالى وتربيته من دون مدخل لتعلمهم فيه بخلاف الأول، ثم قيل: { أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مّن لّقَاء رَبّهِمْ } فلهذا لا يكفيهم أنه تعالى على كل شيء شهيد لأنه لا شهود لهم ليشدوا شهوده تعالى فهو شامل لفريقي الأبرار والكفار، أما الكفار فلأنهم في شك في الأصل، وأما الأبرار فلأنهم في شك من الشهود أي لا علم لهم به إلا إيماناً متمحضاً عن التقليد. وإطلاق المرية للتغليب ولا يخفى حسن موقعه، ثم قيل: { أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شَيْء مُّحِيطُ } تتميماً لقوله تعالى: { أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ } لأن من أحاط بكل شيء علماً وقدرة لم يتخلف شيء عن شهوده فمن شهده شهد كل شيء فهذا هو الوجه في تعميم الآيات من غير تخصيص لها بالفتوح وهو أنسب من قول الحسن ومجاهد وأجرى على قواعد الصوفية وعلماء الأصول رحمة الله تعالى عليهم أجمعين انتهى، وقد أبعد عليه الرحمة المغزى وتكلف ما تكلف.

ونقل العارف الجامي قدس سره في «نفحاته» عن القاشاني أن قوله تعالى: { سَنُرِيهِمْ } الخ يدل على وحدة الوجود، وقد رأيت في بعض كتب القوم الاستدلال به على ذلك وجعل ضمير { أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } إلى المرئي وتفسير { ٱلْحَقّ } بالله عز وجل، ومن هذا ونحوه قال الشيخ الأكبر قدس سره: سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها وهذه الوحدة هي التي حارت فيها الأفهام وخرجت لعدم تحقيق أمرها رقاب من ربقة الإسلام، وللشيخ إبراهيم الكوراني قدس سره النوراني عدة «رسائل» في تحقيق الحق فيها وتشييد مبانيها نسأل الله تعالى أن يمن علينا بصحيح الشهود ويحفظنا بجوده عما علق بأذهان الملاحدة من وحدة الوجود.

وقرىء (إنه على كل شيء شهيد) بكسر همزة إن على إضمار القول. وقرأ السلمي والحسن { في مرية } بضم الميم وهي لغة فيها كالكسر ونحوها { خفية } [الأنعام: 63] بضم الخاء وكسرها والكسر أشهر لمناسبة الياء.

ومن كلمات القوم في الآيات: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [فصلت: 8] فيه إشارة إلى أن أجر المؤمن الغير العامل ممنون أي منقوص بالنسبة إلى أجر المؤمن العامل وأجر هذا العامل على الأعمال البدنية كالصلاة والحج الجنة، وعلى الأعمال القلبية كالرضا والتوكل: الشوق والمحبة وصدق الطلب، وعلى الأعمال الروحانية كالتوجه إلى الله تعالى: كشف الأسرار وشهود المعاني والاستئناس بالله تعالى والاستيحاش من الخلق والكرامات، وعلى أعمال الأسرار كالإعراض عن السوى بالكلية دوام التجلي { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ } / أي أرض البشرية { فِي يَوْمَيْنِ } يومي الهوى والطبيعة { { وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً } [فصلت: 9] من الهوى والطبيعة { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } العقول الإنسانية { وَبَـٰرَكَ فِيهَا } بالحواس الخمس { { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } [فصلت: 10] أقواتها من القوى البشرية { ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء } سماء القلب { { وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت: 11] هيولى إلهية { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ } هي الأطوار السبعة للقلب فالأول: محل الوسوسة والثاني: مظهر الهواجس والثالث: معدن الرؤية ويسمى الفؤاد والرابع: منبع الحكمة ويسمى القلب والخامس: مرآة الغيب ويسمى السويداء والسادس: مثوى المحبة ويسمى الشغاف والسابع: مورد التجلي ومركز الأسرار ومهبط الأنوار ويسمى الحبة { فِي يَوْمَيْنِ } يومي الروح الإنساني والإلهام { { وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَاء ٱلدُّنْيَا بِمَصَـٰبِيحَ } [فصلت: 12] وهي أنوار الأذكار والطاعات { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ } يوم خوطبوا بألست بربكم؟ { ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } على إقرارهم لما خرجوا إلى عالم الصور ولم ينحرفوا عن ذلك كالمنافقين والكافرين، وذكر أن الاستقامة متفاوتة فاستقامة العوام في الظاهر بالأوامر والنواهي وفي الباطن بالإيمان واستقامة الخواص في الظاهر بالرغبة عن الدنيا وفي الباطن بالرغبة عن الجنان شوقاً إلى الرحمن واستقامة خواص الخواص في الظاهر برعاية حقوق المبايعة بتسليم النفس والمال وفي الباطن بالفناء والبقاء { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } تنزلاً متفاوتاً حسب تفاوت مراتبهم، وعن بعض أئمة أهل البيت: إن الملائكة لتزاحمنا بالركب أو ما هذا معناه { { وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت: 30] هي أيضاً متفاوتة فمنهم من يبشر بالجنة المعروفة ومنهم من يبشر بجنة الوصال ورؤية الملك المتعال { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى ٱللَّهِ } بترك ما سواه { وَعَمِلَ صَـٰلِحَاً } لئلا يخالف حاله قاله { وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [فصلت: 33] المنقادين لحكمه تعالى الراضين بقضائه وقدره، وفيه إشارة إلى صفات الشيخ المرشد وما ينبغي أن يكون عليه ويحق أن يقال في كثير من المتصدين للإرشاد في هذا الزمان المتلاطمة أمواجه بالفساد:

خلت الرقاع من الرخاخ وتفرزنت فيها البيادق
وتصاهلت عرج الحمير وذاك من عدم السوابق

{ وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ } وهي التوجه إلى الله تعالى بصدق الطلب وخلوص المحبة { وَلاَ ٱلسَّيّئَةُ } وهي طلب السوى والرضا بالدون { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وهي طلب الله تعالى طلب ما سواه سبحانه { فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ } وهو النفس الأمارة بالسوء { { كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [فصلت: 34] لتزكي النفس عن صفاتها الذميمة وانفطامها عن المخالفات القبيحة { وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ } لتميل إلى ما يهوى { { فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } [فصلت: 36] وارجع إليه سبحانه لئلا يؤثر فيك نزغه، وفيه إشارة إلى أنه لا ينبغي الأمن من المكر والغفلة عن الله عز وجل: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي ءايَـٰتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا } [فصلت: 40] فيه إشارة إلى سوء المنكرين على الأولياء فإنهم من آيات الله تعالى والإنكار من الإلحاد نسأل الله تعالى العفو والعافية { قُلْ هُوَ } أي القرآن { { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء } [فصلت: 44] على حسب مراتبهم فمنهم من يهديه إلى شهود الملك العلام فعن الصادق على آبائه وعليه السلام لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون { سَنُرِيهِمْ ءايَـٰتِنَا فِي ٱلأَفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ } فيه إشارة إلى أن الخلق لا يرون الآيات إلا بإراءته عز وجل وهي كشف الحجب ليظهر أن الأعيان ما شمت رائحة الوجود ولا تشمه أبداً وأنه عز وجل هو الأول والآخر والظاهر والباطن كان الله ولا شيء معه وهو سبحانه الآن على ما عليه كان وإليه الإشارة عندهم بقوله تعالى: { { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [فصلت: 53] ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره:

ما آدم في الكون ما إبليس ما ملك سليمان وما بلقيس
/ الكل إشارة وأنت المعنى يا من هو للقلوب مغناطيس

وأكثر كلامه قدس سره من هذا القبيل بل هو أم وحدة الوجود وأبوها وابنها وأخوها، وإياك أن تقول كما قال ذلك الأجل حتى تصل بتوفيق الله تعالى إلى ما إليه وصل والله عز وجل الهادي إلى سواء السبيل.

تم الكلام على السورة والحمد لله على جزيل نعمائه والصلاة والسلام على رسوله محمد مظهر أسمائه وعلى آله وأصحابه وسائر أتباعه وأحبائه وصلاة وسلاماً باقيين إلى يوم لقائه.