التفاسير

< >
عرض

وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
١٣
-الجاثية

روح المعاني

{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي من الموجودات بأن جعل فيها منافع لكم، منها ظاهرة ومنها خفية، وعقب بالتفكر لينبه على أن التفكر هو الذي يؤدي إلى ما ذكر من الأولوية ويدل به على أن التفكر ملاك الأمر في ترتيب الغرض على ما جعل آية من الإيمان والإيقان والشكر { جَمِيعاً } حال / من { مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أو توكيد له وقوله تعالى: { مِنْهُ } حال من ذلك أيضاً، والمعنى سخر هذه الأشياء جميعاً كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه سبحانه مكونها وموجودها بقدرته وحكمته ثم مسخرها لخلقه.

وجوز فيه أوجه أخر. الأول أن يكون خبر مبتدأ محذوف فقيل «جميعاً» حينئذ حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور بناء على جواز تقدم الحال على مثل هذا العامل أو من المبتدأ بناء على تجويز الحال منه أي هي جميعاً منه تعالى وقيل: جميعاً على ما كان ويلاحظ في تصوير المعنى فالضمير المبتدأ يقدر بعده ويعتبر رجوعه إلى ما تقدم بقيد (جميعاً)، والجملة على القولين استئناف جيء به تأكيداً لقوله تعالى: { سَخَّرَ } أي أنه عز وجل أوجدها ثم سخرها لا أنها حصلت له سبحانه من غيره كالملوك.

الثاني أن يجعل { ما في السمٰوات } مبتدأ ويكون هو خبره و { جَمِيعاً } حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع صلة ويكون { وَسَخَّرَ لَكُمُ } تأكيداً للأول أي سخر وسخر، وفي العطف إيماء إلى أن التسخير الثاني كأنه غير الأول دلالة على أن المتفكر كلما فكر يزداد إيماناً بكمال التسخير والمنة عليه. وجملة { مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ } الخ مستأنفة لمزيد بيان القدرة والحكمة. واعترض بأنه إن أريد التأكيد اللغوي فهو لا يخلو من الضعف لأن عطف مثله في الجمل غير معهود، وإن أريد التأكيد الاصطلاحي كما قيل به في قوله تعالى: { { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [التكاثر: 3-4] فهو مخالف لما ذكره ابن مالك في «التسهيل» من أن عطف التأكيد يختص بثم، وقال الرضي: يكون بالفاء أيضاً وهو هٰهنا بالواو ولم يجوزه أحد منهم وإن لم يذكروا وجه الفرق على أنه قد تقرر في المعاني أنه لا يجري في التأكيد العطف مطلقاً لشدة الاتصال، واعترض أيضاً بأن فيه حذف مفعول { سَخَّرَ } من غير قرينة وهذا كما ترى. الثالث أن يكون { مَّا فِي ٱلأَرْضِ } مبتدأ و { مِنْهُ } خبره ولا يخفى أنه ضعيف بحسب المساق.

وأخرج ابن المنذر من طريق عكرمة أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يكن يفسر هذه الآية، ولعله إن صح محمول على أنه لم يبسط الكلام فيها، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال: فيها كل شيء هو من الله تعالى. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حيمد وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في «الأسماء والصفات» عن طاوس قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال: فمم خلق هؤلاء؟ قال: لا أدري ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله فقال مثل قول عبد الله بن عمرو فأتى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فسأله مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال: فمم خلق هؤلاء؟ فقرأ ابن عباس { وسخر لكم ما في السمٰوات وما في الأرض جميعاً منه } فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبـي صلى الله عليه وسلم.

واختلف أهل العلم فيما أراد ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بذلك فقال البيهقي: أراد أن مصدر الجميع منه تعالى أي من خلقه وإبداعه واختراعه خلق الماء أولاً أو الماء وما شاء عز وجل من خلقه لا عن أصل ولا عن مثال سبق ثم جعله تعالى أصلاً لما خلق بعده فهو جل شأنه المبدع وهو سبحانه البارىء لا إله غيره ولا خالق سواه اهـ، وعليه جميع المحدثين والمفسرين ومن حذا حذوهم.

وقال الشيخ إبراهيم الكوراني من الصوفية: إن المخلوقات تعينات الوجود المفاض الذي هو صورة النفس الرحماني المسمى بالعماء وذلك أن / العماء قد انبسط على الحقائق التي هي أمور عدمية متميزة في نفس الأمر والانبساط حادث والعماء من حيث اقترانه بالماهيات غير ذات الحق تعالى فإنه سبحانه الوجود المحض الغير المقترن بها فالموجودات صور حادثة في العماء قائمة به والله تعالى قيومها لأنه جل وعلا الأول الباطن الممد لتلك الصور بالبقاء ولا يلزم من ذلك قيام الحوادث بذات الحق تعالى ولا كونه سبحانه مادة لها لأن وجوده تعالى مجرد عن الماهيات غير مقترن بها والمتعين بحسبها هو العماء الذي هو الوجود المفاض فأراد ابن عباس أن الأشياء جميعاً منه تعالى أي من نوره سبحانه المفاض الذي هو العماء والوجود المفاض منه تعالى بإيجاده جل شأنه، وبهذا ينطبق الجواب على السؤال من غير تكلف ولا محذور، ولو كان مراد ابن عباس مجرد ما ذكره البيهقي من أن مصدر الجميع من خلقه تعالى كان يكفي في ذلك قوله تعالى: { { ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلّ شَيْء } [الرعد: 16] لكن السؤال إنما وقع بمم ووقع الجواب بمنه في تلاوته الآية فالظاهر أن ما فهمه السائل من تلاوته رضي الله تعالى عنه ليس مجرد ما ذكره بقرينة مدحه بقوله: ما كان ليأتي بهذا الخ فإن ما ذكره البيهقي يعرفه كل من آمن بقوله تعالى: { ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلِّ شَيْء } فلا يظهر حينئذ وجه لقول كل من ابن عمرو وابن الزبير لا أدري فإنهما من أفضل المؤمنين بأن الله تعالى خالق كل شيء بل ما فهمه هو ما أشرنا إليه اهـ، وعليه عامة أهل الوحدة.

{ وأَجابَ ٱلأَوَّلُونَ } بأن مراد ابن عباس قطع التسليل في السؤال بعد ذكر مادة لبعضها بأن مرجع الأمر أن الأشياء كلها خلقت بقدرته تعالى لا من شيء وهو كلام حكيم يمدح قائله لم يهتد إليه ابن الزبير وابن عمرو، ولا يعكر على هذا قوله تعالى: { { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْء } [الطور: 35] لما قاله المفسرون فيه وسيأتي إن شاء الله تعالى في محله فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك.

وقد أورد الحسين بن علي بن واقد في مجلس الرشيد هذه الآية رداً على بعض النصارى في زعمه ان قوله تعالى في عيسى عليه السلام: { { وروحٌ منه } [النساء:171] يدل على ما يزعمه فيه عليه السلام من أنه ابن الله سبحانه وتعالى عما يصفون.

وحكى أبو الفتح وصاحب «اللوامح» عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهم قرؤوا «منة» بكسر الميم وشد النون ونصب التاء على أنه مفعول له أي سخر لكم ذلك نعمة عليكم، وحكاها عن ابن عباس أيضاً ابن خالويه، ولكن قال أبو حاتم: إن سند هذه القراءة إليه مظلم فإذا صح السند يمكن أن يقال فيما تقدم من حديث طاوس: إنه ذكر الآية على قراءة الجمهور ويحتمل أن له قراءتين فيها. وقرأ مسلمة بن محارب كذلك إلا أنه ضم التاء على تقدير هو أو هي منة، وعنه أيضاً فتح الميم وشد النون وهاء الكناية عائدة على الله تعالى أي إنعامه وهو فاعل { سَخَّرَ } على الإسناد المجازي كما تقول: كرم الملك أنعشني أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا أو هو منه تعالى، وجوزت الفاعلية في قراءته الأولى، وتذكير الفعل لأن الفاعل ليس مؤنثاً حقيقياً مع وجود الفاصل، والوجه الأول أولى وإن كان فيه تقدير

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي فيما ذكر { لآيَاتٍ } عظيمة الشأن كثيرة العدد { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } في بدائع صنعه تعالى وعظائم شأنه جل شأنه فإن ذلك يجرهم إلى الإيمان والإيقان والشكر.