التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
٣٠
-محمد

روح المعاني

{ وَلَوْ نَشَاءُ } إراءتك إياهم { لأَرَيْنَاكَهُمْ } أي لعرفناكهم على أن الرؤية علمية { فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـٰهُمْ } تفريع لمعرفته صلى الله عليه وسلم على تعريف الله عز وجل، ويجوز أن تكون الرؤية بصرية على أن المعنى أنه صلى الله عليه وسلم يعرفهم معرفة متفرعة على إراءته إياهم، والالتفات إلى نون العظمة للإيماء إلى العناية بالإراءة. والسيما العلامة، والمعنى هنا على الجمع لعمومها بالإضافة لكنها أفردت للإشارة إلى أن علاماتهم متحدة الجنس فكأنها شيء واحد أي فلعرفتهم بعلامات نسمهم بها. ولام { فَلَعَرَفْتَهُم } كلام { لأَرَيْنَاكَهُمْ } الواقعة في جواب (لو) لأن المعطوف على الجواب جواب، وكررت في المعطوف للتأكيد، وأما التي في قوله تعالى: { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } فواقعة في جواب قسم محذوف والجملة معطوفة على الجملة الشرطية { لحن ٱلْقَوْلِ } أسلوب من أساليبه مطلقاً، أو المائلة عن الطريق المعروفة كأن يعدل عن ظاهره من التصريح إلى التعريض والإبهام، ولذا سمي خطأ الإعراب به لعدوله عن الصواب. وقال الراغب: ((اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه إما بإزالة الإعراب أو التصحيف وهو المذموم وذلك أكثر استعمالاً، وإما بإزالته عن التصريح وصرفه بمعناه إلى تعريض وفحوى وهو محمود من حيث البلاغة، وإليه أشار بقوله الشاعر عند أكثر الأدباء:

منطق صائب وتلحن أحيا ناً وخير الحديث ما كان لحناً

وإياه قصد بقوله تعالى: { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ })) وفي «البحر» ((يقال: لَحَنت له بفتح الحاء ألحن لحناً قلت له قولاً يفهمه عنك ويخفى على غيره، ولَحِنه هو بالكسر فهمه وألحنته أنا إياه ولاحنت الناس فاطنتهم، وقيل: لحن القول الذهاب عن الصواب))، وعن ابن عباس { لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } هنا قولهم ما لنا إن أطعنا من الثواب ولا يقولون ما علينا إن عصينا من العقاب وكان هذا الذي ينبغي منهم، وقال بعض من فسره بالأسلوب المائل عن الطريق المعروفة: إنهم كانوا يصطلحون فيما بينهم على ألفاظ يخاطبون بها الرسول صلى الله عليه وسلم مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح وكانوا أيضاً يتكلمون بما يشعر بالاتباع وهم بخلاف ذلك كقولهم إذا دعاهم المؤمنون إلى نصرهم: إنا معكم، وبالجملة إنهم كانوا يتكلمون بكلام ذي دسائس وكان صلى الله عليه وسلم يعرفهم بذلك، وعن أنس رضي الله تعالى عنه ما خفي بعد هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من المنافقين كان عليه الصلاة والسلام يعرفهم بسيماهم ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب هذا منافق.

وفي دعواه أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرفهم بسيماهم إشكال فإن { لَوْ } ظاهرها عدم الوقوع بل المناسب معرفتهم من لحن القول، وكأنه حمله على أنه وعد بالوقوع دال على الامتناع فيما سلف، ولقد صدق وعده واستشهد عليه بما اتفق في بعض الغزوات. ولا تنحصر السيما بالكتابة / بل تكون بغيرها أيضاً مما يعرفهم به النبـي صلى الله عليه وسلم كما يعرف القائف حال الشخص بعلامات تدل عليه، وكثيراً ما يعرف الإنسان محبه ومبغضه من النظر ويكاد النظر ينطق بما في القلب، وقد شاهدنا غير واحد يعرف السني والشيعي بسمات في الوجه، وإن صح أن بعض الأولياء قدست أسرارهم كان يعرف البر والفاجر والمؤمن والكافر ويقول أشم من فلان رائحة الطاعة ومن فلان رائحة المعصية ومن فلان رائحة الإيمان ومن فلان رائحة الكفر ويظهر الأمر حسبما أشار فرسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المعرفة أولى وأولى؛ ولعلها بعلامات وراء طور عقولنا، والنور المذكور في خبر "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى" متفاوت الظهور بحسب القابليات وللنبـي صلى الله عليه وسلم أتمه.

وذكروا من علامات النفاق بغض علي كرم الله تعالى وجهه. فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ببغضهم علي بن أبـي طالب. وأخرج هو وابن عساكر عن أبـي سعيد الخدري ما يؤيده، وعندي أن بغضه رضي الله تعالى عنه من أقوى علامات النفاق فإن آمنت بذلك فيا ليت شعري ماذا تقول في يزيد الطريد أكان يحب علياً كرم الله تعالى وجهه أم كان يبغضه، ولا أظنك في مرية من أنه عليه اللعنة كان يبغضه رضي الله تعالى عنه أشد البغض وكذا يبغض ولديه الحسن والحسين على جدهما وأبويهما وعليهما الصلاة والسلام كما تدل على ذلك الآثار المتواترة معنى، وحينئذٍ لا مجال لك من القول بأن اللعين كان منافقاً. وقد جاء في الأحاديث الصحيحة علامات للنفاق غير ما ذكر كقوله عليه الصلاة والسلام: "علامات المنافق ثلاث" الحديث لكن قال العلماء هي علامات للنفاق العملي لا الإيماني، وقيل: الحديث خارج مخرج التنفير عن اتصاف المؤمن المخلص بشيء منها لما أنها كانت إذ ذاك من علامات المنافقين.

واستدل بقوله تعالى: { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } من جعل التعريض بالقذف موجباً الحد، ولا يخفى حاله.

{ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـٰلَكُمْ } فيجازيكم عليها بحسب قصدكم وهذا على ما قيل وعد للمؤمنين وإيذان بأن حالهم بخلاف حال المنافقين؛ وقيل: وعيد للمنافقين وإيذان لهم بأن المجزى عليه ما يقصدونه لا ما يعرضون أو يورون به، واستظهر أنه خطاب عام فهو وعد ووعيد، وحمل على العموم قوله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُم حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ }.