التفاسير

< >
عرض

سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
١١
-الفتح

روح المعاني

{ سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلاْعْرَابِ } قال مجاهد وغيره - ودخل كلام بعضهم في بعض -: المخلفون من الأعراب هم جهينة ومزينة وغفار وأشجع والديل وأسلم استنفرهم رسول الله / صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت وأحرم هو صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد حرباً ورأى أولئك الأعراب أنه عليه الصلاة والسلام يستقبل عدداً عظيماً من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورين مكة وهم الأحابيش ولم يكن الإيمان تمكن من قلوبهم فقعدوا عن النبـي صلى الله عليه وسلم وتخلفوا وقالوا: نذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم وقالوا: لن يرجع محمد عليه الصلاة والسلام ولا أصحابه من هذه السفرة ففضحهم الله تعالى في هذه الآية وأعلم رسوله صلى الله عليه وسلم بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم فكان كذلك.

و{ ٱلْمُخَلَّفُونَ } جمع مخلف، قال الطبرسي: ((هو المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد مأخوذ من الخلف وضده المقدم)). و { ٱلأعْرَابُ } في المشهور سكان البادية من العرب لا واحد له أي سيقول لك المتروكون الغير الخارجين معك معتذرين إليك:

{ شَغَلَتْنَا } عن الذهاب معك { أَمْوٰلُنَا وَأَهْلُونَا } إذ لم يكن لنا من يقوم بحفظ ذلك ويحميه عن الضياع. ولعل ذكر الأهل بعد الأموال من باب الترقي لأن حفظ الأهل عند ذوي الغيرة أهم من حفظ الأموال. وقرأ إبراهيم بن نوح بن باذان { شغلتنا } بتشديد الغين المعجمة للتكثير { فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا } الله تعالى ليغفر لنا تخلفنا عنك حيث لم يكن عن تكاسل في طاعتك بل لذلك الداعي.

{ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } أي إن كلامهم من طرف اللسان غير مطابق لما في الجنان، وهو كناية عن كذبهم، فالجملة استئناف لتكذيبهم وكونها بدلاً من { سَيَقُولُ } غير ظاهر، والكذب راجع لما تضمنه الكلام من الخبر عن تخلفهم بأنه لضرورة داعية له وهو القيام بمصالحهم التي لا بد منها وعدم من يقوم بها لو ذهبوا معه عليه الصلاة والسلام، وكذا راجع لما تضمنه { اسْتَغْفِرُ } الإنشاء من اعترافهم بأنهم مذنبون وأن دعاءه صلى الله عليه وسلم لهم يفيدهم فائدة لازمة لهم، أو تسمية ذلك كذباً ليس لعدم مطابقة نسبة الاعتقاد على ما ذهب إليه النظام بل لعدم مطابقته الواقع بحسب الاعتقاد وفرق بين الأمرين.

{ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } أمر له صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بذلك عند اعتذارهم بتلك الأباطيل، والملك إمساك بقوة لأنه بمعنى الضبط وهو حفظ عن حزم، ومنه لا أملك رأس البعير وملكت العجين إذا شددت عجنته، وملكت الشيء إذا دخل تحت ضبطك دخولاً تاماً، وإذا قلت: لا أملك كان نفياً للاستطاعة والطاقة إمساكاً ومنعاً، فأصل المعنى هنا فمن يستطيع لكم إمساك شيء من قدرة الله تعالى إن أراد بكم الخ. واللام من { لَكُمْ } إما للبيان أو من صلة الفعل لأن هذه الاستطاعة مختصة بهم ولأجلهم، و { مِنَ ٱللَّهِ } حال من النكرة أعني { شَيْئاً } مقدمة. وتفسير الملك بالمنع بيان لحاصل المعنى لأنه إذا لم يستطع أحد الإمساك والدفع فلا يمكنه المنع وليس ذلك لجعله مجازاً عنه أو مضمناً إياه واللام زائدة كما في { { رَدِفَ لَكُم } [النمل: 72] و { مِنْ } متعلقة بيملك كما قيل. والمراد بالضر والنفع ما يضر وما ينفع فهما مصدران مراد بهما الحاصل بالمصدر أو مؤولان بالوصف. وقرأ حمزة والكسائي { ضراً } بضم الضاد وهو لغة فيه. وحاصل معنى الآية قل لهم إذ لا أحد يدفع ضره ولا نفعه تعالى فليس الشغل بالأهل والمال عذراً فلا ذاك يدفع الضر إن أراده عز وجل ولا مغافصة العدو تمنع / النفع إن أراد بكم نفعاً، وهذا كلام جامع في الجواب فيه تعريض بغيرهم من المبطلين وبجلالة محل المحقين ثم ترقى سبحانه منه إلى ما يتضمن تهديداً بقوله تعالى: { بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي بكل ما تعملونه { خَبِيراً } فيعلم سبحانه تخلفكم وقصدكم فيه ويجازيكم على ذلك، ثم ختم جل وعلا بمكنون ضمائرهم ومخزون ما أعد لهم عنده تعالى بقوله سبحانه: { بَلْ ظَنَنْتُمْ... }.