التفاسير

< >
عرض

لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
٢
-الفتح

روح المعاني

{ لّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ } مذهب الأشاعرة القائلين بأن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض أن مثل هذه اللام للعاقبة أو لتشبيه مدخولها بالعلة الغائية في ترتبه على متعلقها وترتب المغفرة على الفتح من حيث إن فيه سعياً منه صلى الله عليه وسلم في إعلاء كلمة الله تعالى بمكابدة مشاق الحروب واقتحام موارد الخطوب؛ والسلف كما قال ابن القيم وغيره يقولون بتعليل أفعاله عز وجل. وفي «شرح المقاصد» للعلامة التفتازاني أن من بعض أدلتهم ـ أي الأشاعرة ومن وافقهم على هذا المطلب ـ يفهم أنهم أرادوا عموم السلب ومن بعضها أنهم أرادوا سلب العموم، ثم قال: الحق أن بعض / أفعاله تعالى معلل بالحِكَم والمصالح وذلك ظاهر والنصوص شاهدة به، وأما تعميم ذلك بأنه لا يخلو فعل من أفعاله سبحانه من غرض فمحل بحث. وذكر الأصفهاني في «شرح الطوالع» في هذه المسألة خلافاً للمعتزلة وأكثر الفقهاء. وأنا أقول: بما ذهب إليه السلف لوجود التعليل فيما يزيد على عشرة آلاف آية وحديث، والتزام تأويل جميعها خروج عن الإنصاف، وما يذكره الحاضرون من الأدلة يدفع بأدنى تأمل كما لا يخفى على من طالع كتب السلفيين عليهم الرحمة.

وفي «الكشاف» ((لم يجعل الفتح علة للمغفرة لكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل)). وحاصله كما قال العلامة أن الفتح لم يجعل علة لكل من المتعاطفات بعد اللام أعني المغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصر بل لاجتماعها، ويكفي في ذلك أن يكون له دخل في حصول البعض كإتمام النعمة والنصر العزيز، وتحقيقه كما قال أن العطف على المجرور باللام قد يكون للاشتراك في متعلق اللام مثل جئتك لأفوز بلقياك وأحوز عطاياك ويكون بمنزلة تكرير اللام وعطف جار ومجرور على جار ومجرور، وقد يكون للاشتراك في معنى اللام كجئتك لتستقر في مقامك وتفيض عليَّ من إنعامك أي لاجتماع الأمرين، ويكون من قبيل جاءني غلام زيد وعمرو أي الغلام الذي لهما. واستظهر دفعا لتوهم أنه إذا كان المقصود البعض فذكر الباقي لغو أن يقال: لا يخلو كل منهما أن يكون مقصوداً بالذات وهو ظاهر أو المقصود البعض وحينئذ فذكر غيره إما لتوقفه عليه أو لشدة ارتباطه به أو ترتبه عليه فيذكر للإشعار بأنهما كشيء واحد كقوله تعالى: { { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ } [البقرة: 282] وقولك: أعددت الخشب ليميل الحائط فأدعمه ولازمت غريمي لأستوفي حقي وأخليه. وظاهر كلام الزمخشري أن المقصود فيما نحن فيه تعليل الهيئة الإجتماعية فحسب فتأمل لتعرف أنه من أي الأقسام هو. واعلم أن المشهور كون العلة ما دخلته اللام لا ما تعلقت به كما هو ظاهر عبارة «الكشاف»؛ لكن حقق أنها إذا دخلت على الغاية صح أن يقال: إن ما بعدها علة ويراد بحسب التعقل وأن يقال: ما تعلقت به علة ويراد بحسب الوجود فلا تغفل.

وزعم صاحب «الغنيان» أن اللام هٰهنا هي لام القسم وكسرت وحذف النون من الفعل تشبيهاً بلام كي. ورد بأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها فإنه لم يسمع والله ليقوم زيد على معنى ليقومن زيد، وانتصر له بأن الكسر قد علل بتشبيهها بلام كي وأما النصب فله أن يقول فيه: بأنه ليس نصباً وإنما هو الحركة التي تكون مع وجود النون بقيت بعد حذفها دلالة على الحذف. وأنت تعلم أنه لا يجدي نفعاً مع عدم السماع.

هذا والالتفات إلى اسم الذات المستتبع لجميع الصفات قيل: للإشعار بأن كل واحد مما انتظم في سلك الغاية من أفعاله تعالى صادر عنه عز وجل من حيثية غير حيثية الآخر مترتبة على صفة من صفاته جل شأنه. وقال الصدر: لا يبعد أن يقال: إن التعبير عنه تعالى في مقام المغفرة بالاسم الجليل المشعر بصفات الجمال والجلال يشعر بسبق مغفرته تعالى على عذابه. وفي «البحر» ((لما كان الغفران وما بعده يشترك في إطلاقه الرسول عليه الصلاة والسلام وغيره لقوله تعالى: { { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [النساء: 116] وقوله سبحانه: { { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [المائدة: 3] وقوله تعالى: { { يَـٰبَنِي إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 40] وقوله عز وجل: { { يَهْدِي مَن يَشَآء } [البقرة: 142] وقوله تبارك وتعالى: { { إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ } [الصافات: 172] وكان الفتح مختصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم أسنده الله تعالى إلى نون العظمة تفخيماً لشأنه وأسند تلك الأشياء إلى الاسم الظاهر وضميره))/ وهو كما ترى وإن قاله الإمام أيضاً. وأقول: يمكن أن يكون في إسناد المغفرة إليه تعالى بالاسم الأعظم بعد إسناد الفتح إليه تعالى بنون العظمة إيماء إلى أن المغفرة ما يتولاها سبحانه بذاته وأن الفتح مما يتولاه جل شأنه بالوسائط، وقد صرح بعضهم بأن عادة العظماء أن يعبروا عن أنفسهم بصيغة المتكلم مع الغير لأن ما يصدر عنهم في الأكثر باستخدام توابعهم، ولا يعترض بأن النصر كالفتح وقد أسند إلى الاسم الجليل لما يخفى عليك.

وتقديم { لَكَ } على المفعول الصريح أعني قوله تعالى: { مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } لما مر غير مرة. و { مَا } للعموم والمتقدم والمتأخر للإحاطة كناية عن الكل. والمراد بالذنب ما فرط من خلاف الأولى بالنسبة إلى مقامه عليه الصلاة والسلام فهو من قبيل حسنات الأبرار سيآت المقربين، وقد يقال: المراد ما هو ذنب في نظره العالي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن ذنباً ولا خلاف الأولى عنده تعالى كما يرمز إلى ذلك الإضافة. وقال الصدر: يمكن أن يكون قوله تعالى: { لّيَغْفِرَ } الخ كناية عن عدم المؤاخذة أو من باب الاستعارة التمثيلية من غير تحقق معاني المفردات. وأخرج ابن المنذر عن عامر وأبـي جعفر أنهما قالا: ما تقدم في الجاهلية وما تأخر في الإسلام، وقيل ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد وليس بشيء مع أن العكس أولى لأن حديث امرأة زيد متقدم.

وفي الآية مع ما عهد من حاله صلى الله عليه وسلم من كثرة العبادة ما يدل على شرف مقامه إلى حيث لا تحيط به عبارة، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت صام وصلى حتى انتفخت قدماه وتعبد حتى صار كالشن البالي فقيل له: أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك أو ما تأخر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا أكون عبداً شكوراً.

{ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } بإعلاء الدين وانتشاره في البلاد وغير ذلك مما أفاضه تعالى عليه صلى الله عليه وسلم من النعم الدينية والدنيوية { وَيَهْدِيَكَ صِرٰطاً مُّسْتَقِيماً } في تبليغ الرسالة وإقامة الحدود. قيل: إن أصل الاستقامة وإن كان حاصلاً قبل الفتح لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبل الحق واستقامة مناهجه ما لم يكن حاصلاً قبل.