التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
١٠٩
-المائدة

روح المعاني

وقوله سبحانه: { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } قيل ظرف لقوله عز وجل: { { لاَّ يَهِدِّى } [المائدة: 108]، ونظر فيه الحلبـي من حيث إنه سبحانه لا يهديهم مطلقاً لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا وهذا احتمال ذكره الزمخشري، ونقل عن المغربـي أيضاً وهو ظاهر على تقدير أن يكون المراد لا يهديهم إلى طريق الجنة، وفيه مراعاة لمذهب الاعتزال من نفي الهداية المطلقة لا يجوز على الله جل وعلا ولذلك خصص المهدي إليه، وقيل: إنه بدل من مفعول { { وَٱتَّقَوْاْ } [المائدة: 108] فهو حينئذ مفعول لا ظرف. وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعداً لطول الفصل بالجملتين، وقال الحلبـي: لا بعد فإن هاتين الجملتين من تمام معنى الجملة الأولى وهو عند القائلين بالبدلية بدل اشتمال. وتعقب ذلك العلم العراقي بأن الانصاف أن بدل الاشتمال هٰهنا ممتنع لأنه لا بد فيه من اشتمال البدل على المبدل منه أو بالعكس وهنا يستحيل ذلك ولهذا قال الحلبـي: لا بد في هذا الوجه من تقدير مضاف ليصح. والمراد اتقوا عقاب الله يوم وحينئذ يصح انتصاب اليوم على الظرفية، وقال المحقق التفتازاني: وجه بدل الاشتمال ما بينهما من الملابسة بغير الكلية والبعضية بطريق اشتمال المبدل منه على البدل لا كاشتمال الظرف على المظروف بل بمعنى أن ينتقل الذهن إليه في الجملة ويقتضيه بوجه إجمالي مثلاً إذا قيل اتقوا الله يتبادر الذهن منه إلى أنه من أي أمر من أموره وأي يوم من أيام أفعاله يجب الاتقاء أيوم جمعه سبحانه للرسل أم غير ذلك، واعترض بأنه اشترط في ذلك أن لا يكون ظرفية وهذا ظرف زمان لو أبدل منه لأوهم ذلك، وقيل: إنه منصوب بمضمر معطوف على { ٱتَّقَوْاْ } الخ واحذروا أو واذكروا يوم الخ فإن تذكير ذلك اليوم الهائل مما يضطرهم إلى تقوى الله تعالى وتلقي أمره بسمع الإجابة، وقيل: منصوب بقوله سبحانه: { { وَٱسْمَعُواْ } [المائدة: 108] بحذف مضاف أي واسمعوا خبر ذلك اليوم. وقيل: منصوب بفعل مؤخر قد حذف للدلالة على ضيق العبارة عن شرحه وبيانه لكمال فظاعة ما يقع فيه كأنه قيل: يوم يجمع الله الرسل الخ يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي ببيانه نطاق المقال، وتخصيص الرسل بالذكر مع أن ذلك يوم مجموع له الناس لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم بناء على ظهور كونهم أتباعاً لهم. وقيل: ولا يخفى لطفه على بعض الاحتمالات الآتية في الآية لأن المقام مقام ذكر الشهداء والرسل عليهم الصلاة والسلام هم الشهداء على أممهم كما يدل على ذلك قوله تعالى: { { وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيداً } [القصص: 75] ففي بيان حالهم وما يقع لهم يوم القيامة وهم هم من وعظ الشهداء الذين البحث فيهم ما لا يخفى، وبهذا تتصل الآية بما قبلها أتم اتصال. وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية / المهابة وتشديد التهويل.

{ فَيَقُولُ } لهم { مَاذَا أُجبْتُمْ } أي في الدنيا حين بلغتم الرسالة وخرجتم عن العهدة كما ينبىء عن ذلك العدول عن تصدير الخطاب بهل بلغتم، وفي العدول عن ماذا أجاب أممكم ما لا يخفى من الإنباء عن كمال تحقير شأنهم وشدة السخط والغيط عليهم، والسؤال لتوبيخ أولئك أيضاً وإلا فهو سبحانه علام الغيوب. و { مَاذَا } متعلق بأجبتم على أنه مفعول مطلق له أي أي إجابة أجبتم من قبل أممكم إجابة قبول أو إجابة رد. وقيل: التقدير بماذا أجبتم أي بأي شيء أجبتم على أن يكون السؤال عن الجواب لا الإجابة فحذف حرف الجر وانتصب المجرور. وضعف بأن حذف حرف الجر وانتصاب مجروره لا يجوز إلا في الضرورة كقوله:

تمرون الديار ولم تعوجوا

وكذا تقديره مجروراً. وقال العوفي: إن { مَا } اسم استفهام مبتدأ و { ذَا } بمعنى الذي خبره و { أجبتم } صلته والعائد محذوف أي ما الذي أجبتم به. واعترض بأنه لا يجوز حذف العائد المجرور إلا إذا جر الموصول بمثل ذلك الحرف الجار واتحد متعلقاهما، وغاية ما أجابوا به عن ذلك أن الحذف وقع على التدريج وهو كما ترى.

{ قَالُواْ } استئناف مبني على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل: فماذا يقول الرسل عليهم الصلاة والسلام حينئذ؟ فقيل: يقولون { لاَ عِلْمَ لَنَا } والتعبير بالماضي للدلالة على التقرر والتحقق كـ { { نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ } [الحاقة: 13] وغيره، ونفي العلم عن أنفسهم مع علمهم بماذا أجيبوا كما تدل عليه شهادتهم عليهم الصلاة والسلام على أممهم هنالك حسبما نطقت به بعض الآيات ليس على حقيقته بل هو كناية عن إظهار التشكي والالتجاء إلى الله تعالى بتفويض الأمر كله إليه عز شأنه. وقال ابن الأنباري: إنه على حقيقته لكنه ليس لنفي العلم بماذا أجيبوا عند التبليغ ومدة حياتهم عليهم الصلاة والسلام بل بما كان في عاقبة الأمر وءاخره الذي به الاعتبار. واعترض بأنهم يرون آثار سوء الخاتمة عليهم فلا يصح أيضاً نفي العلم بحالهم وبما كان منهم بعد مفارقتهم لهم. وأجيب بأن ذلك إنما يدل على سوء الخاتمة وظهور الشقاوة في العاقبة لا على حقيقة الجواب بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلعلهم أجابوا إجابة قبول ثم غلبت عليهم الشقوة. وتعقب بأنه من المعلوم أن ليس المراد بماذا أجبتم نفس الجواب الذي يقولونه أو الإجابة التي تحدث منهم بل ما كانوا عليه في أمر الشريعة من الامتثال والانقياد أو عكس ذلك. وفي رواية عن الحسن أن المراد لا علم لنا كعلمك لأنك تعلم باطنهم ولسنا نعلم ذلك وعليه مدار فلك الجزاء، وقيل: المراد من ذلك النفي تحقيق فضيحة أممهم أي أنت أعلم بحالهم منا ولا يحتاج إلى شهادتنا.

وأخرج الخطيب في «تاريخه» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد نفي العلم نظراً إلى خصوص الزمان وهو أول الأمر حين تزفر جهنم فتجثو الخلائق على الركب وتنهمل الدموع وتبلغ القلوب الحناجر وتطيش الأحلام وتذهل العقول ثم إنهم يجيبون في ثاني الحال وبعد سكون الروع واجتماع الحواس وذلك وقت شهادتهم على الأمم، وبهذا أجاب رضي الله تعالى عنه نافع بن الأرزق حين سأله عن المنافاة بين هذه الآية وما أثبت الله تعالى لهم من الشهادة على أممهم في ءاية أخرى. وروي أيضاً عن السدي والكلبـي ومجاهد وهو اختيار الفراء وأنكره الجبائي، وقال: كيف يجوز القول بذهولهم من هول يوم القيامة مع قوله سبحانه: { { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } [الأنبياء: 103] وقوله عز وجل: { { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [يونس: 62] وقد نقل ذلك عنه الطبرسي ثم قال: «ويمكن أن يجاب عنه بأن الفزع الأكبر دخول النار. وقوله سبحانه: { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } إنما هو كالبشارة بالنجاة من أهوال ذلك اليوم مثل ما يقال للمريض لا بأس عليك ولا خوف» وقيل: إن ذلك الذهول لم يكن لخوف ولا حزن وإنما هو من باب العوم في بحار الإجلال لظهور ءاثار تجلي الجلال.

واعترض شيخ الإسلام على ما تقدم بأن قوله سبحانه وتعالى: { إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ } في موضع التعليل ولا يلائم ما ذكر. و { علام } صيغة مبالغة والمراد الكامل في العلم. و الغيوب جمع غيب وجمع وإن كان مصدراً على ما قال السمين لاختلاف أنواعه وإن أريد به الشيء الغائب أو قلنا إنه مخفف غيب فالأمر واضح. وقرىء { علام } بالنصب على أن الكلام قد تم عند { إِنَّكَ أَنتَ } ونصب الوصف على المدح أو النداء أو على أنه بدل من اسم إن، ومعنى { إِنَّكَ أَنتَ } إنك الموصوف بصفاتك المعروفة، والكلام على طريقة:

أنا أبو النجم وشعري شعري

وقرأ أبو بكر وحمزة { ٱلْغُيُوبِ } بكسر الغين حيث وقع وقد سمع في كل جمع على وزن فعول كبيوت كسر أوله لئلا يتوالى ضمتان وواو.