التفاسير

< >
عرض

قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ
١١٥
-المائدة

روح المعاني

{ قَالَ ٱللَّهُ إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ } مرات عديدة كما ينبىء عن ذلك صيغة التفعيل، وورود الإجابة منه تعالى كذلك مع كون الدعاء منه عليه الصلاة والسلام بصيغة الإفعال لإظهار كمال اللطف والإحسان مع ما فيه من مراعاة ما وقع في عبارة السائلين، وفي تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعل خبرها اسماً تحقيق للوعد وإيذان بأنه سبحانه وتعالى منجز له لا محالة وإشعار بالاستمرار، وهذه القراءة لأهل المدينة والشام وعاصم وقرأ الباقون كما قال الطبرسي { منزلها } بالتخفيف، وجعل الإنزال والتنزيل بمعنى واحد.

{ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ } أي بعد تنزيلها حال كونه كائناً { مِنكُمْ فَإِنّى أُعَذّبُهُ } بسبب كفره ذلك { عَذَاباً } هو اسم مصدر بمعنى التعذيب كالمتاع بمعنى التمتيع، وقيل: مصدر محذوف الزوائد وانتصابه على المصدرية في التقديرين، وقيل: منصوب على التوسع، والتشبيه بالمفعول به مبالغة كما ينصب الظرف ومعمول الصفة المشبهة كذلك، وجوز أبو البقاء أن يكون نصبه على الحذف والإيصال، والمراد بعذاب وهو حينئذ اسم ما يعذب به، ولا يخفى أن حذف الجار لا يطرد في غير أن وإن عند عدم اللبس، والتنوين للتعظيم أي عذاباً عظيماً.

وقوله سبحانه وتعالى: { لاَّ أُعَذّبُهُ } في موضع النصب على أنه صفة له. والهاء في موضع المفعول المطلق كما في ظننته زيداً قائماً. ويقوم مقام العائد إلى الموصوف كما قيل. ووجه بأنه حينئذ يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل فيكون في معنى النكرة الواقعة بعد النفي من حيث العموم فيشمل العذاب المتقدم، ويحصل الربط بالعموم واورد عليه أن الربط بالعموم إنما ذكره النحاة في الجملة الواقعة خبراً فلا يقاس عليه الصفة وجوز أن يكون من قبيل ضربته ضرب زيد أي عذاباً لا أعذب تعذيباً مثله، وعلى هذا التقدير يكون الضمير راجعاً على العذاب المقدم فالربط به. وقيل: الضمير راجع إلى «من» بتقدير مضافين أي لا أعذب مثل عذابه.

{ أَحَداً مّن ٱلْعَـٰلَمِينَ } أي عالمي زمانهم أو العالمين مطلقاً، وهذا العذاب إما في الدنيا، وقد عذب من كفر منهم بمسخهم قردة وخنازير. وروي ذلك عن قتادة وإما في الآخرة وإليه يشير ما أخرجه أبو الشيخ. وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون ويدل هذا على أن المائدة نزلت وكفر البعض بعد. وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن ومجاهد أن القوم لما قيل لهم: «فمن يكفر» الخ قالوا: لا حاجة لنا بها فلم تنزل. والجمهور على الأول وعليه المعول. فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر موقوفاً ومرفوعاً. والوقف أصح قال: أنزلت المائدة من السماء خبزاً / ولحماً وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا فمسخوا قردة وخنازير وكان الخبز من أرز على ما روي عن عكرمة.

وروي أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما سأله قومه ذلك فدعا أنزل الله تعالى عليهم سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وغمامة تحتها وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من السماء تهوي إليهم وعيسى عليه الصلاة والسلام يبكي خوفاً من الشرط الذي اتخذ عليهم فيها فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يديه والحواريون حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا رائحة مثلها قط وخر عيسى عليه الصلاة والسلام والحواريون سجداً شكراً لله تعالى وأقبل اليهود ينظرون إليهم فرأوا ما يغمهم ثم انصرفوا فأقبل عيسى عليه الصلاة والسلام ومن معه ينظرونها فإذا هي مغطاة بمنديل فقال عليه الصلاة والسلام: من أجرؤنا على كشفه وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه حتى نراها ونحمد ربنا سبحانه وتعالى ونأكل من رزقه الذي رزقنا؟ فقالوا: يا روح الله وكلمته أنت أولى بذلك فقام واستأنف وضوءاً جديداً ثم دخل مصلاه فصلى ركعات ثم بكى طويلاً ودعا الله تعالى أن يأذن له في الكشف عنها ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقاً ثم انصرف وجلس حول السفرة وتناول المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين وكشف عنها فإذا عليها سمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير وليس في جوفها شوك يسيل السمن منها قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث وعند رأسها خل وعند ذنبها ملح وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الآخر تمرات وعلى الآخر خمس رمانات، وفي رواية على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن. وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فسأله شمعون عنها وأجابه بما تقدمت روايته. ثم قالوا له عليه الصلاة والسلام: إنما نحب أن ترينا آية في هذه الآية فقال عليه السلام: سبحان الله تعالى أما اكتفيتم ثم قال: يا سمكة عودي بإذن الله تعالى حية كما كنت فأحياها الله تعالى بقدرته فاضطربت وعادت حية طرية تلمظ كما يتلمظ الأسد تدور عيناها لها بصيص وعادت عليها بواسير ففزع القوم منها وانحاشوا فقال عليه الصلاة والسلام لهم: ما لكم تسألون الآية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ما أخوفني عليكم بما تصنعون يا سمكة عودي بإذن الله تعالى كما كنت مشوية ثم دعاهم إلى الأكل فقالوا: يا روح الله أنت الذي تبدأ بذلك فقال: معاذ الله تعالى يبدأ من طلبها فلما رأوا امتناع نبيهم عليه الصلاة والسلام خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة فتحاموها فدعا عليه الصلاة والسلام لها الفقراء والزمنى، وقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم وأحمدوا الله تعالى الذي أنزلها لكم ليكون مهنؤها لكم وعقوبتها على غيركم وافتتحوا كلكم باسم الله واختتموه بحمد الله ففعلوا فأكل منها ألف وثلثمائة إنسان بين رجل وامرأة وصدروا منها وكل واحد منهم شبعان يتجشى ونظر عيسى عليه السلام والحواريون ما عليها فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينتقص منه شيء ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون فاستغنى كل فقير أكل منها وبرىء كل زمن منهم أكل منها فلم يزالوا أغنياء صحاحاً حتى خرجوا من الدنيا وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم وبقيت حسرتها في قلوبهم، وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنوا اسرائيل إليها من كل مكان يسعون فزاحم بعضهم بعضاً الأغنياء والفقراء والنساء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى يركب بعضهم بعضاً فلما رأى عيسى عليه الصلاة والسلام ذلك جعلها نوبا بينهم فكانت تنزل يوماً ولا تنزل / يوماً فلبثوا في ذلك أربعين يوماً تنزل عليهم غباً عند ارتفاع الضحى فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قالوا ارتفعت عنهم باذن الله تعالى إلى جو السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن اجعل رزقي لليتامى والمساكين والزمنى دون الأغنياء من الناس فلما فعل الله تعالى ذلك ارتاب بها الأغنياء وغمصوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب المرتابين فلما علم عيسى عليه السلام ذلك منهم قال: هلكتم وإله المسيح سألتم نبيكم أن يطلب المائدة لكم إلى ربكم فلما فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقا وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها وشككتم فيها فابشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله تعالى وأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام إني آخذ المكذبين بشرطي وإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين فلما أمسى المرتابون وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين وكان آخر الليل مسخهم الله تعالى خنازير وأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال لبني اسرائيل: هل لكم أن تصوموا ثلاثين يوماً ثم تسالوه فيعطيكم ما سألتم فإن أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير قلت لنا: إن أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلا أطعمنا { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ ٱلسَّمَاء } إلى قوله تعالى: { أَحَداً مّن ٱلْعَـٰلَمِينَ } فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم. وجاء عنه أن المائدة كانت تنزل عليهم حيث نزلوا، وعن وهب بن منبه أن المائدة كان يقعد عليها أربعة آلاف فإذا أكلوا شيئاً أبدل الله تعالى مكانه مثله فلبثوا بذلك ما شاء الله عز وجل.