التفاسير

< >
عرض

فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٣
-المائدة

روح المعاني

{ فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـٰقَهُمْ } أي بسبب نقضهم ميثاقهم المؤكد لا بشيء آخر استقلالاً وانضماماً، فالباء سببية، و (ما) مزيدة لتوكيد الكلام وتمكينه في النفس، أو بمعنى شيء كما قال أبو البقاء، والجار متعلق بقوله تعالى: { لَّعَنَّٰهُم } أي طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا عقوبة لهم ـ قاله عطاء وجماعة ـ وعن الحسن ومقاتل أن المعنى مسخناهم قردة وخنازير، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عذبناهم بضرب الجزية عليهم، ولا يخفى أن ما قاله عطاء أقرب إلى المعنى الحقيقي لأن حقيقة اللعن في اللغة الطرد والابعاد فاستعماله في المعنيين الأخيرين مجاز باستعماله في لازم معناه، وهو الحقارة بما ذكر لكنه لا قرينة في الكلام عليه، وتخصيص البيان بما ذكر مع أن حقه أن يبين بعد بيان تحقق [نفس] اللعن والنقض بأن يقال مثلاً: فنقضوا ميثاقهم فلعناهم ضرورة تقدم هيئة الشيء البسيطة على هيئته المركبة ـ كما قال شيخ الإسلام ـ للإيذان بأن تحققهما أمر جلي غني عن البيان، وإنما المحتاج إلى ذلك ما بينهما من السببية والمسببية.

{ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَٰسِيَةً } يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تلين ـ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ. وقيل: المراد سلبناهم التوفيق واللطف الذي تنشرح به صدورهم حتى ـ ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ـ وهذا كما تقول لغيرك: أفسدت سيفك إذا ترك تعاهده حتى صدىء، وجعلت أظافيرك سلاحك إذا لم يقصها، وقال الجبائي المعنى: بينا عن حال قلوبهم وما هي عليه من القساوة وحكمنا بأنهم لا يؤمنون ولا تنفع فيهم موعظة، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وما دعا إليه إلا الاعتزال، وقرأ حمزة والكسائي (قسية)، وهي إما مبالغة قاسية لكونه على وزن فعيل، أو بمعنى ردية من قولهم: درهم قسى إذا كان مغشوشاً، وهو أيضاً من القسوة، فإن المغشوش فيه يبس وصلابة، وقيل: إن قسى غير عربي بل معرب، وقرىء، ـ قسية ـ بكسر القاف للاتباع.

{ يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم فإنه لا مرتبة أعظم مما ينشأ عنه الاجتراء على تحريف كلام رب العالمين والافتراء عليه عز وجل، والتعبير بالمضارع للحكاية واستحضار الصورة، وللدلالة على التجدد والاستمرار، وجوز أن يكون حالا من مفعول { لَعنَّـٰهُمْ }، أو من المضاف إليه في قلوبهم وضعف بما ضعف، وجعله حالا من القلوب، أو من ضميره في { قَاسِيَةً } كما قيل، لا يصح لعدم العائد منه إلى ذي الحال، وجعل القلوب بمعنى أصحابها مما لا يلتفت إليه أصحابها { وَنَسُواْ حَظَّا } أي وتركوا نصيباً وافياً، واستعمال النسيان بهذا المعنى كثير { مّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ } من التوراة أو مما أمروا به فيها من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، / وقيل: حرفوا التوراة فسقطت بشؤم ذلك أشياء منها عن حفظهم، وأخرج ابن المبارك وأحمد في «الزهد» عن ابن مسعود قال: إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها، وفي معنى ذلك قول الشافعي رضي الله تعالى عنه:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي

{ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مّنْهُمْ } أي خيانة كما قرىء به على أنها مصدر على وزن فاعلة ـ كالكاذبة، واللاغية ـ أو فعلة خائنة أي ذات خيانة، وإلى ذلك يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو فرقة خائنة، أو نفس خائنة، أو شخص خائنة على أنه وصف، والتاء للمبالغة لكنها في فاعل قليلة، و { مِنْهُمْ } متعلق بمحذوف وقع صفة لها، خلا أن ـ من ـ على الوجهين الأولين ابتدائية أي على خيانة، أو فعلة ذات خيانة كائنة منهم صادرة عنهم، وعلى الأوجه الأخر تبعيضية، والمعنى إن الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم كما يعلم من وصفهم بالتحريف وما معه بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها فلا تزال ترى ذلك منهم { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ } استثناء من الضمير المجرور في { مِنْهُمْ }؛ والمراد بالقليل عبد الله بن سلام وأضرابه الذين نصحوا لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجعله بعضهم استثناء من { خَائِنَةَ } على الوجه الثاني، فالمراد بالقليل الفعل القليل و { مِنْ } ابتدائية كما مر أي إلا فعلا قليلاً كائناً منهم، وقيل: الاستثناء من قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً }.

{ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ } أي إذا تابوا أو بذلوا الجزية ـ كما روي عن الحسن وجعفر بن مبشر ـ واختاره الطبري، فضمير { عَنْهُمْ } راجع إلى ما رجع إليه نظائره، وعن أبي مسلم أنه عائد على القليل المستثنى أي فاعف عنهم ما داموا على عهدك ولم يخونوك، وعلى القولين فالآية محكمة، وقيل: الضمير عائد على ما اختاره الطبري، وهي مطلقة إلا أنها نسخت بقوله تعالى: { { قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } [التوبة: 29] الآية. وروي ذلك عن قتادة، وعن الجبائي أنها منسوخة بقوله تعالى: { { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاء } [الأنفال: 58] { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } تعليل للأمر وحث على الامتثال وتنبيه على أن العفو على الإطلاق من باب الإحسان.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلوٰةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } أمر بالتطهير لمن أراد الوقوف بين يدي الملك الكبير جل شأنه وعظم سلطانه، وبدأ بالوجه ـ لأنه سبحانه وتعالى نقشه بنقش خاتم صفاته، وفي «الفتوحات» ((لا خلاف في أن غسل الوجه فرض وحكمه في الباطن المراقبة والحياء من الله تعالى مطلقاً، ثم اختلف الحكم في الظاهر في أن تحديد غسل الوجه في الوضوء في ثلاثة مواضع: منها البياض الذي بين العذار والأذن، والثاني: ما سدل من اللحية، والثالث: تخليل اللحية، فأما البياض المذكور فمن قائل: إنه من الوجه، ومن قائل: إنه ليس من الوجه، وأما ما انسدل من اللحية فمن قائل: بوجوب إمرار الماء عليه، ومن قائل: بأنه لا يجب، وكذلك تخليل اللحية، فمن قائل: بوجوبه، ومن قائل: بأنه لا يجب، وحكم ذلك في الباطن أما غسل الوجه مطلقاً من غير نظر إلى تحديد الأمر في ذلك فإن فيه ما هو فرض، وفيه ما هو ليس بفرض، فأما الفرض فالحياء من الله تعالى أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك، وأما السنة / منه فالحياء من الله تعالى أن تنظر إلى عورتك أو عورة امرأتك، وإن كان ذلك قد أبيح لك، ولكن استعمال الحياء فيها أفضل وأولى فما يتعين منه فهو فرض عليك، وما لا يتعين ففعلته فهو سنة واستحباب، فيراقب الإنسان أفعاله ظاهراً وباطناً، ويراقب ربه في باطنه، فإن وجه قلبه هو المعتبر، ووجه الإنسان على الحقيقة ذاته يقال: وجه الشيء أي حقيقته وعينه وذاته، فالحياء خير كله، و ـ الحياء من الإيمان ـ ولا يأتي إلا بخير، وأما البياض الذي بين العذار والأذن، وهو الحد الفاصل بين الوجه والأذن فهو الحد بين ما كلف الإنسان من العمل في وجهه والعمل في سماعه، فالعمل في ذلك إدخال الحدّ في المحدود، فالأولى بالإنسان أن يصرف حياءه في سمعه كما صرفه في بصره، فكما أن الحياء غض البصر كما قال تعالى: { { قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ } [النور: 30] كذلك يلزم الحياء من الله تعالى أن لا يسمع ما لا يحل له من غيبة؛ وسوء قول من متكلم بما لا ينبغي فإن ذلك البياض هو بين العذار والأذن ـ وهو محل الشبهة ـ وهو أن يقول: أصغيت إليه لأرد عليه، وهذا معنى العذار فإنه من العذر أي الإنسان يعتذر إذا قيل له: لم أصغيت إلى هذا القول بأذنك؟ فيقول: إني أردت أن أحقق سماع ما قال حتى أنهاه عنه، فكنى عنه بالعذار فمن رأى وجوب ذلك عليه غسله، ومن لم ير وجوب ذلك إن شاء غسل وإن شاء ترك، وأما غسل ما استرسل من اللحية وتخليلها فهي الأمور العوارض، فإن اللحية شيء يعرض في الوجه وليست من أصله، فكل ما يعرض لك في وجه ذلك من المسائل فأنت فيها بحكم ذلك العارض، فإن تعين عليك طهارة ذلك العارض فهو قول من يقول بوجوب غسله، وإن لم يتعين عليك طهارته فطهرته استحباباً أو تركته لكونه ما تعين عليك فهو قول من لم يقل بوجوب الطهارة فيه، وقد بين أن حكم الباطن يخالف الظاهر بأن فيه وجهاً إلى الفريضة، ووجها إلى السنة والاستحباب، فالفرض من ذلك لا بد من إتيانه، وغير الفرض عمله أولى من تركه، وذلك سار في جميع العبادات)) انتهى.

وقال بعض العارفين: هذا خطاب للمؤمنين بالإيمان العلمي إذا قاموا عن نوم الغفلة وقصدوا صلاة الحضور والمناجاة الحقيقية والتوجه إلى الحق أن يطهروا وجوه قواهم بماء العلم النافع الطاهر المطهر من علم الشرائع والأخلاق والمعاملات الذي يتعلق بإزالة الموانع عن لوث صفات النفس، وأول هذا الأيدي في قوله تعالى: { وَأَيْدِيَكُمْ } بالقوى والقدر أي طهروا أيضاً قواكم وقدركم عن دنس تناول الشهوات والتصرفات في مواد الرجس { إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } أي قدر الحقوق والمنافع، وقال الشيخ الأكبر قدس سره: ((أجمع الناس على غسل اليدين والذراعين، واختلفوا في إدخال المرافق في هذا الغسل، فمن قائل: بوجوب إدخالهما، ومن قائل: بعدم الوجوب، لكن لم ينازع بالاستحباب، وحكم الباطن في ذلك أن غسل اليدين والذراعين إشارة إلى غسلهما بالكرم والجود والسخاء والهبات والاعتصام والتوكل، فإن هذا وشبهه من نعوت اليدين والمعاصم للمناسبة، بقي غسل المرافق وهي رؤية الأسباب التي يرتفق العبد ويأنس بها لنفسه، فمن رأى إدخال المرافق في نفسه رأى أن الأسباب إنما وضعها الله تعالى حكمة منه في خلقه فلا يرد أن تعطل حكمة الله تعالى لا على طريق الاعتماد عليها فإن ذلك يقدح في اعتماده على الله تعالى، ومن رأى عدم إيجابها في الغسل رأى سكون النفس إلى الأسباب، وأنه لا يخلص له مقام الاعتماد على الله تعالى مع وجود رؤية الأسباب، وكل من يقول: بأنه لا يجب غسلها يقول: يستحب كذلك رؤية الأسباب مستحبة عند الجميع وإن اختلفت أحكامهم فيها، فإن الله تعالى ربط الحكمة في وجودها)). { وَٱمْسَحُواْ بِرُءُوْسِكُمْ } قال بعض العارفين: أي بجهات أرواحكم عن قتام كدورة القلب وغبار تغيره بالتوجه / إلى العالم السفلي ومحبة الدنيا بنور الهدى، فإن الروح لا يتكدر بالتعلق بل يحتجب نوره عن القلب فيسود القلب ويظلم ويكفي في انتشار نوره صقل الوجه العالي الذي يتوجه إليه، فإن القلب ذو وجهين: أحدهما: إلى الروح ـ والرأس ـ هنا إشارة إليه، والثاني: إلى النفس وقواها، وأحرى ـ بالرجل ـ أن تكون إشارة إليه. وقال الشيخ الأكبر قدس الله سره بعد أن بين اختلاف العلماء في القدر الذي يجب مسحه: ((وأما حكم مسح الرأس في الباطن فأصله من الرياسة وهي العلو والارتفاع، ولما كان أعلا ما في البدن في ظاهر العين وجميع البدن تحته سمي رأساً، فإن الرئيس فوق المرؤوس وله جهة فوق، وقد وصف الله تعالى نفسه بالفوقية على عباده بصفة القهر، فقال سبحانه: { { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [الأنعام: 18] فكان الرأس أقرب عضو في الجسد إلى الحق تعالى لمناسبة الفوقية، ثم له الشرف الآخر في المعنى الذي به رأس على البدن كله، وهو أنه محل جميع القوى كلها الحسية والمعنوية، فلما كانت له هذه الرياسة من هذه الجهة سمي رأساً، ثم إن العقل الذي جعله الله تعالى أشرف ما في الإنسان جعل محله اليافوخ وهو أعلى موضع في الرأس فجعله سبحانه مما يلي جانب الفوقية، ولما كان محلا لجميع القوى الظاهرة والباطنة ولكل قوة حكم وسلطان وفخر يورثها ذلك عزة على غيرها، وكان محل هذه القوى من الرأس مختلفة فعمت الرأس كله وجب مسح كله في هذه العبارة لهذه الرياسة السارية فيه كله من جهة هذه القوى بالتواضع والاقناع، فيكون لكل قوة مسح مخصوص من مناسبة دعواها، وهذا ملحظ من يرى وجوب مسح جميع الرأس؛ ومن رأى تفاوت القوى بالرياسة فإن القوة المصورة مثلاً لها سلطان على القوة الخيالية فهي الرئيسة عليها، وإن كانت للقوة الخيالية رياسة قال: الواجب عليه مسح بعض الرأس وهو المقسم بالأعلى، ثم اختلفوا في هذا البعض، فكل عارف قال بحسب ما أعطاه الله تعالى من الإدراك في مراتب هذه القوة فيمسح بحسب ما يرى، ومعنى المسح هو التذلل وإزالة الكبرياء والشموخ بالتواضع والعبودية لأن المتوضىء بصدد مناجاة ربه وطلب وصلته، والعزيز الرئيس إذا دخل على من ولاه تلك العزة ينعزل عن عزته ورياسته بعز من دخل عليه فيقف بين يديه وقوف العبيد في محل الإذلال لا بصفة الإدلال فمن غلب على خاطره رياسة بعض القوى على غيرها وجب عليه مسح ذلك البعض من أجل الوصلة التي تطلب بهذه العبادة ولهذا لم يشرع مسح الرأس في التيمم لأن وضع التراب على الرأس من علامات الفراق، فترى الفاقد حبيبه بالموت يضع التراب على رأسه، وتفصيل رياسات القوى معلوم عند أهل هذا الشأن، وأما التبعيض في اليد الممسوح بها، واختلافهم في ذلك فاعمل فيه كما تعمل في الممسوح سواء، فإن المزيل لهذه الرياسة أسباب مختلفة في القدرة على ذلك، ومحل ذلك اليد، فمن مزيل بصفة القهر ومن مزيل بسياسة وترغيب إلى آخر ما قال)): { وَأَرْجُلَكُمْ } أشير بها إلى القوى الطبيعية البدنية المنهمكة في الشهوات والإفراط باللذات، وغسلها بماء علم الأخلاق وعلم الرياضيات حتى ترجع إلى الصفاء الذي يستعد به القلب للحضور والمناجاة.

وفي «الفتوحات» ((اختلفوا في صفة طهارتها بعد الاتفاق على أنها من أعضاء الوضوء هل ذلك بالغسل أو بالمسح أو بالتخيير بينهما؟ ومذهبنا التخيير، والجمع أولى، وما من قول إلا وبه قائل، والمسح بظاهر الكتاب، والغسل بالسنة، ومحتمل الآية بالعدول عن الظاهر منها، وأما حكم ذلك في الباطن فاعلم أن السعي إلى الجماعات وكثرة الخطا إلى المساجد والثبات يوم الزحف مما تطهر به الأقدام فلتكن طهارة / رجليك بما ذكرناه وأمثاله، ولا تتمثل بالنميمة بين الناس ولا تمش مرحاً واقصد في مشيك واغضض من صوتك، ومن هذا ما هو فرض بمنزلة المرة الواحدة في غسل عضو الوضوء الرجل وغيره، ومنه ما هو سنة وهو ما زاد على الفرض، وهو مشيك فيما ندبك الشرع إليه وما أوجبه عليك، فالواجب عليك نقل الأقدام إلى مصلاك، والمندوب والمستحب والسنة وما شئت فقل من ذلك نقل الأقدام إلى المساجد من قرب وبعد، فإن ذلك ليس بواجب فإن كان الواجب من ذلك عند بعض الناس مسجداً لا بعينه وجماعة لا بعينها فعلى هذا يكون غسل رجليك في الباطن من طريق المعنى، واعلم أن الغسل يتضمن المسح فمن غسل فقد أدرج المسح فيه كاندراج نور الكواكب في نور الشمس، ومن مسح لم يغسل إلا في مذهب من يرى، وينقل عن العرب أن المسح لغة في الغسل فيكون من الألفاظ المترادفة، والصحيح في المعنى في حكم الباطن أن يستعمل المسح فيما يقتضي الخصوص من الأعمال، والغسل فيما يقتضي العموم، ولهذا كان مذهبنا التخيير بحسب الوقت، فإن الشخص قد يسعى لفضيلة خاصة في حاجة شخص بعينه فذلك بمنزلة المسح، وقد يسعى للملك في حاجة تعم الرعية فيدخل ذلك الشخص في هذا العموم فذلك بمنزلة الغسل الذي اندرج فيه المسح)) انتهى.

{ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ } الجنابة غربة العبد عن موطنه الذي يستحقه، وليس إلا العبودية وتغريب صفة ربانية عن موطنها وكل ذلك يوجب التطهير، وقوله تعالى: { وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَىٰ } الخ قد تقدم نظيره. وفي «الفتوحات» ((اختلف في حد الأيدي المذكورة في هذه الطهارة، فمن قائل: حدها مثل حدها في الوضوء ومن قائل: هو الكف فقط ـ وبه أقول ـ ومن قائل: إن الاستحباب إلى المرفقين والفرض الكفان، ومن قائل: إن الفرض إلى المناكب، والاعتبار في ذلك أنه لما كان التراب في الأرض أصل نشأة الإنسان وهو تحقيق عبوديته وذلته أمر بطهارة نفسه من التكبر بالتراب، وهو حقيقة عبوديته ويكون ذلك بنظره في أصل خلقه، ولما كان من جملة ما يدعيه الاقتدار والعطاء مع أنه مجبول على العجز والبخل، وهذه الصفات من صفات الأيدي قيل له عند هذه الدعوة ورؤية نفسه في الاقتدار الظاهر منه، والكرم والعطاء: طهر نفسك من هذه الصفة بنظرك فيما جبلت عليه من ضعفك ومن بخلك فقد قال تعالى: { { خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ } [الروم: 54] { { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } [الحشر: 9] { { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً } [المعارج: 21] فإذا نظر إلى هذا الأصل زكت نفسه وتطهرت من الدعوى، واختلفوا في عدد الضربات على الصعيد للتيمم، فمن قائل: واحدة، ومن قائل: اثنتان، والقائلون بذلك، منهم من قال: ضربة للوجه وضربة لليدين، ومنهم من قال: ضربتان لليد وضربتان للوجه، ومذهبنا أنه من ضرب واحدة أجزأه، ومن ضرب اثنتين اجزأه وحديث الضربة الواحدة أثبت، والاعتبار في ذلك التوجه إلى ما يكون به هذه الطهارة، فمن غلب التوحيد في الأفعال قال: بالضربة الواحدة، ومن غلب حكم السبب الذي وضعه الله تعالى ونسب الفعل إلى الله تعالى مع تعريته عنه مثل قوله تعالى: { { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات: 96] فأثبت ونفى قال: بالضربتين ومن قال: إن ذلك في كل فعل قال: بالضربتين لكل عضو)) انتهى. وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في أنواع الطهارة وأتى فيه بالعجب العجاب. { مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ } أي من ضيق ومشقة بكثرة المجاهدات { وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ } من الصفات الخبيثة، وعن سهل: الطهارة على سبعة أوجه: طهارة العلم من الجهل وطهارة الذكر من النسيان وطهارة اليقين من الشك وطهارة العقل من الحمق وطهارة الظن من التهمة وطهارة الإيمان مما دونه وطهارة القلب من / الإرادات، وقال: إسباغ طهارة الظاهر تورث طهارة الباطن، وإتمام الصلاة يورث الفهم عن الله تعالى، والطهارة تكون في أشياء: في صفاء المطعم ومباينة الأنام وصدق اللسان وخشوع السر، وكل واحد من هذه الأربع مقابل لما أمر الله تعالى بتطهيره وغسله من الأعضاء الظاهرة.

وقال ابن عطاء: البواطن مواضع نظر الحق سبحانه فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم" ، فموضع نظر الحق جل وعلا أحق بالطهارة، وذلك إنما يكون بإزالة أنواع الخيانات والمخالفات وفنون الوساوس والغش والحقد والرياء والسمعة وغير ذلك من المناهي، وليس شيء على العارفين أشد من جمع الهم وطهارة السر، وفي إضافة التطهير إليه تعالى ما لا يخفى من اللطف { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } بالتكميل، وقال بعض العارفين: إتمام النعمة لقوم نجاتهم بتقواهم، وعلى آخرين نجاتهم عن تقواهم فشتان بين قوم وقوم و { { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [المائدة: 6] نعمة الكمال بالاستقامة والقيام بحق العدالة عند البقاء بعد الفناء { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } بالهداية إلى طريق الوصول إليه، { وَمِيثَـٰقَهُ ٱلَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ } وهو عقود عزائمه المذكورة { { إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [المائدة: 7] أي إذا قبلتموها من معدن النبوة بصفاء الفطرة، وقال بعضهم: المراد بنعمة الله تعالى هدايته سبحانه السابقة في الأزل لأهل السعادة، وبالميثاق الميثاق الذي واثق الله تعالى به عباده أن لا يشتغلوا بغيره عنه سبحانه، وقال أبو عثمان: النعم كثيرة وأجلها المعرفة به سبحانه، والمواثيق كثيرة وأجلها الإيمان { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ } أي من قوى نفوسكم المحجوبة وصفاتها { أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } بالاستيلاء والقهر لتحصيل مآربها وملاذها { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } أي فمنعها عنكم بما أراكم من طريق التطهير والتنزيه { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } واجعلوه سبحانه وقاية في قهرها ومنعها { { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [المائدة: 11] برؤية الأفعال كلها منه عز وجل. { وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرٰءيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً } وهم في الأنفس الحواس الخمس الظاهرة، والخمس الباطنة والقوة العاقلة النظرية والقوة العملية، وذكر غير واحد من ساداتنا الصوفية أن النقباء أحد أنواع: الأولياء: نفعنا الله تعالى ببركاتهم، ففي «الفتوحات»: ومنهم النقباء وهم إثنا عشر نقيباً في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون على عدد بروج الفلك الإثنى عشر برجاً، كل نقيب عالم بخاصية كل برج، وبما أودع الله تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات، وما يعطى للنزلاء فيه من الكواكب السيارة والثوابت، فإن للثوابت حركات وقطعاً في البروج لا يشعر به في الحس لأنه لا يظهر ذلك إلا في آلاف من السنين، وأعمار الرصد تقصر عن مشاهدة ذلك؛ واعلم أن الله تعالى قد جعل بأيدي هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة، ولهم استخراج خبايا النفوس وغوائلها ومعرفة مكرها وخداعها، وإبليس مكشوف عندهم يعرفون منه ما لا يعرفه من نفسه وهم من العلم بحيث إذا رأى أحدهم أثر وطأة شخص في الأرض علم أنها وطأة سعيد أو شقي مثل العلماء بالآثار والقيافة، وبالديار المصرية منهم كثير يخرجون الأثر في الصخور، وإذا رأوا شخصاً يقولون: هذا الشخص هو صاحب ذلك الأثر وليسوا بأولياء، فما ظنك بما يعطيه الله تعالى لهؤلاء النقباء من علوم الآثار؟ انتهى.

وقد عد الشيخ قدس سره فيها أنواعاً كثيرة، والسلفيون ينكرون أكثر تلك الأسماء، ففي بعض «فتاوي ابن تيمية»، وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي بمكة والأوتاد الأربعة / والأقطاب السبعة، والأبدال الأربعين والنجباء الثلثمائة، فهي ليست موجودة في كتاب الله تعالى ولا هي مأثورة عن النبـي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل إلا لفظ الأبدال، فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعاً إلى النبـي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن فيهم ـ يعني أهل الشام ـ الأبدال أربعين رجلاً كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلاً» ولا توجد أيضاً في كلام السلف انتهى، وأنا أقول:

وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد

{ وَقَالَ ٱللَّهُ } تعالى { إِنّى مَعَكُمْ } بالتوفيق والإعانة { لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلوٰةَ } وتحليتم بالعبادات البدنية { وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَٰوةَ } وتخليتم عن الصفات الذميمة من البخل والشح فزهدتم وآثرتم { وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي } جميعهم من العقل والإلهامات والأفكار الصائبة والخواطر الصادقة من الروح والقلب وإمداد الملكوت { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } أي وعظمتموهم بأن سلطتموهم على شياطين الوهم وقويتموهم ومنعتموهم من الوساوس وإلقاء الوهميات والخيالات والخواطر النفسانية { وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } بأن تبرأتم من الحول والقوة والعلم والقدرة، وأسندتم كل ذلك إليه عز شأنه، بل ومن الأفعال والصفات جميعها، بل ومن الذات بالمحو والفناء وإسلامها إلى باريها جل وعلا { لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } التي هي الحجب والموانع لكم { وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّـٰتٍ } مما عندي { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } وهي أنهار علوم التوكل والرضاء والتسليم والتوحيد، وتجليات الأفعال والصفات والذات { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ } العهد وبعث النقباء منكم { { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء ٱلسَّبِيلِ } [المائدة: 12] وهلك مع الهالكين { فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـٰقَهُمْ } الذي وثقوه { لَعنَّـٰهُمْ } وطردناهم عن الحضرة { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } باستيلاء صفات النفس عليها وميلها إلى الأمور الأرضية { يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } حيث حجبوا عن أنوار الملكوت والجبروت التي هي كلمات الله تعالى واستبدلوا قوى أنفسهم بها واستعملوا وهمياتهم وخيالاتهم بدل حقائقها { وَنَسُواْ حَظَّا } نصيباً وافراً { مّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ } في العهد اللاحق وهو ما أوتوه في العهد السابق من الكمالات الكامنة في استعداداتهم الموجودة فيها بالقوة { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مّنْهُمْ } من نقض عهد ومنع أمانة لاستيلاء شيطان النفس عليهم وقساوة قلوبهم { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ } وهو من جره استعداده إلى ما فيه صلاحه { فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [المائدة: 13] إلى عباده باللطف والمعاملة الحسنة جعلنا الله تعالى وإياكم من المحسنين.