التفاسير

< >
عرض

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ
٤٢
-المائدة

روح المعاني

{ سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ }، وقيل: إن الظاهر أنه تعليل لقوله تعالى: { { لَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ } [المائدة: 41] الخ أو توطئة لما بعده، أو المراد بالكذب هنا الدعوى الباطلة، وفيما مر ما يفتريه الأحبار، ويؤيده الفصل بينهما. { أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحْتِ } أي الحرام من سحته إذا استأصلته، وسمي الحرام سحتاً ـ عند الزجاج ـ لأنه يعقب عذاب الاستئصال والبوار، وقال الجبائي: لأنه لا بركة فيه لأهله فيهلك هلاك الاستئصال غالباً، وقال الخليل: لأن في طريق كسبه عاراً فهو يسحت مروءة الإنسان، والمراد به هنا ـ على المشهور ـ: الرشوة في الحكم، وروي ذلك عن ابن عباس والحسن.

وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، قيل: يا رسول الله وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم" وأخرج عبد الرزاق عن جابر بن عبد الله قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هدايا الأمراء سحت" وأخرج ابن المنذر عن مسروق قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أرأيت الرشوة في الحكم أمن السحت هي؟ قال: لا ولكن كفر، إنما السحت أن يكون للرجل عند السلطان جاه ومنزلة، ويكون للآخر إلى السلطان حاجة فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه هدية، وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سئل عن السحت فقال: الرشا، فقيل له في الحكم قال: ذاك الكفر، وأخرج البيهقي في «سننه» عن ابن مسعود نحو ذلك، وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبـي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ست خصال من السحت: رشوة الإمام ـ وهي أخبث ذلك كله ـ وثمن الكلب وعسب الفحل ومهر البغي وكسب الحجام وحلوان الكاهن" ، وعدّ ابن عباس رضي الله تعالى عنه في رواية ابن منصور والبيهقي عنه أشياء أخر.

قيل: ولعظم أمر الرشوة اقتصر عليها من اقتصر، وجاء من طرق "عن النبـي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما" . ولتفاقم الأمر في هذه الأزمان بالارتشاء صدر الأمر من حضرة مولانا ـ ظل الله تعالى على الخليقة ومجدد نظام رسوم الشريعة والحقيقة ـ السلطان العدلي محمود خان لا زال محاطاً بأمان الله تعالى ـ حيثما كان في السنة الرابعة والخمسين بعد الألف والمائتين ـ بمؤاخذة المرتشي وأخويه على أتم وجه، وحد للهدية حداً لئلا يتوصل بها إلى الإرتشاء كما يفعله اليوم كثير من الأمراء، فقد أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون من بعدي ولاة يستحلون الخمر بالنبيذ والنجش بالصدقة، والسحت بالهدية، والقتل بالموعظة يقتلون البرىء ليوطئوا العامة يملى لهم فيزدادوا إثماً" .

هذا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب { ٱلسُّحْتَ } بضمتين، وهما لغتان ـ كالعنق والعنق ـ./ وقرىء { ٱلسُّحْتَ } بفتح السين على لفظ المصدر أريد به المسحوت كالصيد بمعنى المصيد، و { ٱلسُّحْتَ } بفتحتين و { ٱلسُّحْتَ } بكسر السين.

{ فَإِن جَاءوكَ } خطاب للنبـي صلى الله عليه وسلم، والفاء فصيحة أي إذا كان حالهم كما شرح فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات { فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ } بما أراك الله تعالى { أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } غير مبال بهم ولا مكترث، وهذا كما ترى تخيير له صلى الله عليه وسلم بين الأمرين، وهو معارض لقوله تعالى: { { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ } [المائدة: 49] وتحقيق المقام على ما ذكر الجصاص ـ في كتاب «الأحكام» ـ أن العلماء اختلفوا، فذهب قوم إلى أن التخيير منسوخ بالآية الأخرى وروي ذلك عن ابن عباس وإليه ذهب أكثر السلف، قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم كان أولاً مخيراً، ثم أمر عليه الصلاة والسلام بإجراء الأحكام عليهم، ومثله لا يقال من قبل الرأي، وقيل: إن هذه الآية فيمن لم يعقد له ذمة، والأخرى في أهل الذمة فلا نسخ، وأثبته بعضهم بمعنى التخصيص لأن من أخذت منه الجزية تجري عليه أحكام الإسلام، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضاً. وقال أصحابنا: أهل الذمة محمولون على أحكام الإسلام في البيوع والمواريث وسائر العقود إلا في بيع الخمر والخنزير فإنهم يقرون عليه، ويمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه، ولا يرجمون لأنهم غير محصنين، وخبر الرجم السابق سبق توجيهه، واختلف في مناكحتهم، فقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: يقرون عليها، وخالفه ـ في بعض ذلك ـ محمد وزفر، وليس له عليهم اعتراض قبل التراضي بأحكامنا، فمتى تراضوا بها وترافعوا إلينا وجب إجراء الأحكام عليهم، وتمام التفصيل في الفروع.

{ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ } بيان لحال الأمرين بعد تخييره صلى الله عليه وسلم بينهما، وتقديم حال الإعراض للمسارعة إلى بيان أنه لا ضرر فيه حيث كان مظنة لترتب العداوة المقتضية للتصدي للضرر، فمآل المعنى إن تعرض عنهم ولم تحكم بينهم فعادوك وقصدوا ضررك { فَلَن يَضُرُّوكَ } بسبب ذلك { شَيْئاً } من الضرر فإن الله تعالى يحفظك من ضررهم { وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ } أي بالعدل الذي أمرت به، وهو ما تضمنه القرآن واشتملت عليه شريعة الإسلام، وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه من أنه قال: ـ لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم ـ إن صح يراد منه لازم المعنى { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } أي العادلين فيحفظهم عن كل مكروه ويعظم شأنهم.