التفاسير

< >
عرض

مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
١٨

روح المعاني

{ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } ما يرمي به من فيه، خيراً كان أو شراً. وقرأ محمد بن أبـي معدان { مَّا يلفظ } بفتح الفاء { إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ } ملك يرقب قوله ويكتبه فإن كان خيراً فهو صاحب اليمين وإن كان شراً فهو صاحب الشمال { عَتِيدٌ } معد مهيأ لكتابة ما أمر به من الخير أو الشر. وتخصيص القول بالذكر لإثبات الحكم في الفعل بدلالة النص.

واختلف فيما يكتبانه فقال الإمام مالك وجماعة: يكتبان كل شيء حتى الأنين في المرض، وفي «شرح الجوهرة» للقاني مما يجب اعتقاده أن لله تعالى ملائكة يكتبون أفعال العباد من خير أو شر أو غيرهما قولاً كانت أو عملاً اعتقاداً، هماً كانت أو عزماً أو تقريراً اختارهم سبحانه لذلك فهم لا يهملون من شأنهم شيئاً فعلوه قصداً وتعمداً أو ذهولاً ونسياناً صدر / منهم في الصحة أو في المرض كما رواه علماء النقل والرواية انتهى.

وفي بعض الآثار ما يدل على أن الكلام النفسي لا يكتب، أخرج البيهقي في «الشعب» عن حذيفة بن اليمان أن للكلام سبعة أغلاق إذا خرج منها كتب وإن لم يخرج لم يكتب القلب واللها واللسان والحنكان والشفتان، وذهب بعضهم إلى أن المباح لا يكتبه أحد منهما لأنه لا ثواب فيه ولا عقاب والكتابة للجزاء فيكون مستثنى حكماً من عموم الآية وروي ذلك عن عكرمة. وأخرج ابن أبـي شيبة وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه من طريقه عن ابن عباس أنه قال: إنما يكتب الخير والشر لا يكتب يا غلام أسرج الفرس ويا غلام اسقني الماء، وقال بعضهم: يكتب كل ما صدر من العبد حتى المباحات فإذا عرضت أعمال يومه محى منها المباحات وكتب ثانياً ما له ثواب أو عقاب وهو معنى قوله تعالى: { { يَمْحُو ٱللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ } [الرعد: 39] وقد أشار السيوطي إلى ذلك في بعض رسائله وجعل وجهاً للجمع بين القولين بكتابة المباح والقول بعدمها وقد روي نحوه عن ابن عباس. أخرج ابن جرير وابن أبـي حاتم عنه أنه قال في الآية: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله: أكلت وشربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان من خير أو شر وألقي سائره فذلك قوله تعالى: { { يَمْحُو ٱللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ } [الرعد: 39].

ثم إن المباح على القول بكتابته يكتبه ملك الشمال على ما يشعر به ما أخرجه ابن أبـي شيبة والبيهقي في «شعب الإيمان» من طريق الأوزاعي عن حسان بن عطية أن رجلاً كان على حمار فعثر به فقال: تعست فقال صاحب اليمين: ما هي بحسنة فاكتبها وقال صاحب الشمال ما هي بسيئة فاكتبها فنودي صاحب الشمال إن ما تركه صاحب اليمين فاكتبه، وجاء في بعض الأخبار أن صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال، وقد أخرج ذلك الطبراني وابن مردويه والبيهقي في «الشعب» من حديث أبـي أمامة مرفوعاً، وفيه "فإذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر أمثالها وإذا عمل سيئة وأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال صاحب اليمين أمسك فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات فإن استغفر الله تعالى منها لم يكتب عليه منها شيئاً وإن لم يستغفر الله تعالى كتبت عليه سيئة واحدة" ومثل الاستغفار كما نص عليه فعل طاعة مكفرة في حديث آخر أن صاحب اليمين يقول: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر.

وظاهر الآية عموم الحكم للكافر فمعه أيضاً ملكان يكتبان ما له وما عليه من أعماله وقد صرح بذلك غير واحد وذكروا أن ماله الطاعات التي لا تتوقف على نية كالصدقة وصلة الرحم وما عليه كثير لا سيما على القول بتكليفه بفروع الشريعة.

وفي «شرح الجوهرة» الصحيح كتب حسنات الصبـي وإن كان المجنون لا حفظة عليه لأن حاله ليست متوجهة للتكليف بخلاف الصبـي وظاهر الآية شمول الحكم له وتردد الجزولي في الجن والملائكة أعليهم حفظة أم لا ثم جزم بأن على الجن حفظة وأتبعه القول بذلك في الملائكة عليهم السلام، قال اللقاني بعد نقله: ولم أقف عليه في الجن لغيره ويفهم منه أنه وقف عليه في الملائكة لغيره ولعله ما حكي عن بعضهم أن المراد بالروح في قوله تعالى: { { تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ } [القدر: 4] الحفظة على الملائكة، ويحتاج دعوى ذلك فيهم وفي الجن إلى نقل. وأما اعتراض القول به في الملائكة بلزوم التسلسل فمدفوع بما لا يخفى على المتأمل.

ثم إن بعضهم استظهر في الملكين اللذين مع الإنسان كونهما ملكين بالشخص لا بالنوع لكل إنسان يلزمانه إلى مماته فيقومان عند قبره يسبحان الله تعالى ويحمدانه ويكبرانه ويكتبان ثواب ذلك لصاحبهما إن كان مؤمناً. / أخرج أبو الشيخ في «العظمة» والبيهقي في «شعب الإيمان» عن أنس أن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى وكل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله فإذا مات قال الملكان اللذان وكلا به: قد مات فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحوني فيقولان: أنقيم في الأرض؟ فيقول الله تعالى: أرضي مملوءة من خلقي يسبحوني فيقولان فأين؟ فيقول: قوما على قبر عبدي فسبحاني واحمداني وكبراني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة، وجاء أنهما يلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافراً" .

وقال الحسن: الحفظة أربعة اثنان بالنهار واثنان بالليل وهو يحتمل التبدل بأن يكون في كل يوم وليلة أربعة غير الأربعة التي في اليوم والليلة قبلهما وعدمه. وقال بعضهم: إن ملك الحسنات يتبدل تنويهاً بشأن الطائع وملك السيآت لا يتبدل ستراً على العاصي في الجملة.

والظاهر أنهما لا يفارقان الشخص وقالوا: يفارقانه عند الجماع ودخول الخلاء، ولا يمنع ذلك من كتبهما ما يصدر عنه في تلك الحال، ولهما علامة للحسنة والسيئة بدنيتين كانتا أو قلبيتين. وبعض الأخبار ظاهرة في أن ما في النفس لا يكتب، أخرج ابن المبارك وابن أبـي الدنيا في «الإخلاص» وأبو الشيخ في «العظمة» عن ضمرة بن حبيب قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الملائكة يصعدون بعمل العبد من عباد الله تعالى فيكثرونه ويزكونه حتى ينتهوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين قال: ويصعدون بعمل العبد من عباد الله تعالى فيستقلونه ويحتقرونه حتى ينتهوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه فضاعفوه له واجعلوه في عليين" وجاء من حديث عبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» عن أبـي عمران الجوني أنه ينادي الملك اكتب لفلان بن فلان كذا وكذا أي من العمل الصالح فيقول: يا رب إنه لم يعمله فيقول: سبحانه وتعالى إنه نواه، وقد يقال: إنهما يكتبان ما في النفس ما عدا الرياء والطاعات المنوية جمعاً بين الأخبار.

وجاء أن يكتب للمريض والمسافر مثل ما كان يعمل في الصحة والإقامة من الحسنات. أخرج ابن أبـي شيبة والدارقطني في «الأفراد» والطبراني والبيهقي في «الشعب» عن عبد الله بن عمرو قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلا أمر الله تعالى الحفظة فقال: اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدوداً في وثاقي" وأخرج ابن أبـي شيبة عن أبـي موسى قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرض أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً" وفي بعض الآثار ما يدل على أن بعض الطاعات يكتبها غير هذين الملكين.

ثم إن الملائكة الذين مع الإنسان ليسوا محصورين بالملكين الكاتبين، "فعن عثمان أنه سأل النبـي صلى الله عليه وسلم كم ملك على الإنسان؟ فذكر عشرين ملكاً" قاله المهدوي في «الفيصل»، وذكر بعضهم أن المعقبات في قوله تعالى: { { لَهُ مُعَقّبَـٰتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } [الرعد: 11] غير الكاتبين بلا خلاف، وحكى اللقاني عن ابن عطية أن كل آدمي يوكل به من حين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك، والله تعالى أعلم بصحة ذلك. وروى ابن المنذر وأبو الشيخ في «العظمة» عن ابن المبارك أنه قال: وكل بالعبد خمسة أملاك ملكان بالليل وملكان بالنهار يجيئان ويذهبان وملك خامس لا يفارقه لا ليلاً ولا نهاراً.