التفاسير

< >
عرض

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ
٣٦

روح المعاني

{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ } أي كثيراً / أهلكنا قبل قومك { مّن قَرْنٍ } قوماً مقترنين في زمن واحد { هُمْ أشدُّ مِنْهُم بَطْشاً } أي قوة كما قيل أو أخذاً شديداً في كل شيء كعاد وقوم فرعون { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلَـٰدِ } ساروا في الأرض وطوفوا فيها حذار الموت، فالتنقيب السير وقطع المسافة كما ذكره الراغب وغيره، وأنشدوا للحرث بن حلزة:

نقبوا في البلاد من حذر المو ت وجالوا في الأرض كل مجال

ولامرىء القيس:

وقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب

وروي وقد طوفت. وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن ذلك فقال: هو هربوا بلغة اليمن، وأنشد له بيت الحرث المذكور لكنه نسبه لعدي بن زيد، وفسر التنقيب في البلاد بالتصرف فيها بملكها ونحوه، وشاع التنقيب في العرف بمعنى التنقير عن الشيء والبحث عن أحواله، ومنه قوله تعالى: { { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً } [المائدة: 12] وأما قولهم: كلب نقيب فهو بمعنى منقوب أي نقبت غلصمته ليضعف صوته. والفاء على تفسير التنقيب بالسير ونحوه المروي عن ابن عباس لمجرد التعقيب، وعلى تفسيره بالتصرف للسببية لأن تصرفهم في البلاد مسبب عن اشتداد بطشهم، وهي على الوجهين عاطفة على معنى ما قبلها كأنه قيل: اشتد بطشهم فنقبوا وقيل: هي على ما تقدم أيضاً للسببية والعطف على { أَهْلَكْنَا } على أن المراد أخذنا في إهلاكهم فنقبوا في البلاد.

{ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } على إضمار قول هو حال من واو { نَقَّبُوا } أي قائلين هل لنا مخلص من الله تعالى أو من الموت؟ أو على إجراء التنقيب لما فيه من معنى التتبع والتفتيش مجرى القول على ما قيل أو هو كلام مستأنف لنفي أن يكون لهم محيص أي هل لهم مخلص من الله عز وجل أو من الموت. وقيل: ضمير { نَقَّبُوا } لأهل مكة أي ساروا في مسايرهم وأسفارهم في بلاد القرون المهلكة فهل رأوا لهم محيصاً حتى يؤملوا مثله لأنفسهم. وأيد بقراءة ابن عباس وابن يعمر وأبـي العالية ونصر بن سيار وأبـي حيوة والأصمعي عن أبـي عمرو { فنقِّبوا } على صيغة الأمر لأن الأمر للحاضر وقت النزول من الكفار وهم أهل مكة لا غير والأصل توافق القرائتين، وفيه على هذه القراءة التفات من الغيبة إلى الخطاب. وقرأ ابن عباس أيضاً وعبيد عن أبـي عمرو { فنقبوا } بفتح القاف مخففة، والمعنى كما في المشددة، وقرىء بكسر القاف خفيفة من النقب محركاً، وهو أن ينتقب خف البعير ويرق من كثرة السير، قال الراجز:

أقسم بالله أبو حفص عمر ما مسها من نقب ولا دبر

والكلام بتقدير مضاف أي نقبت أقدامهم، ونقب الأقدام كناية مشهورة عن كثرة السير فيؤل المعنى إلى أنهم أكثروا السير في البلاد أونقبت أخفاف مراكبهم والمراد كثرة السير أيضاً، وقد يستغنى عن التقدير بجعل الإسناد مجازياً.