التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
١٥
آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ
١٦
كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
١٧
-الذاريات

روح المعاني

لا يبلغ كنهها ولا يقادر قدرها.

{ ءاخِذِينَ مَا ءاتَـٰهُمْ رَبُّهُمْ } أي قابلين لكل ما أعطاهم عز وجل راضين به على معنى أن كل ما آتاهم حسن مرضي يتلقى بحسن القبول، والعموم مأخوذ من شيوع (ما) وإطلاقه في معرض المدح وإظهار مَنِّهِ تعالى عليهم، واعتبار الرضا لأن الأخذ قبول عن قصد. ونصب { ءاخِذِينَ } على الحال من الضمير في الظرف { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ } في الدنيا { مُحْسِنِينَ } أي لأعمالهم الصالحة آتين بها على ما ينبغي فلذلك استحقوا ما استحقوا من الفوز العظيم، وفسر إحسانهم بقوله تعالى: { كَانُواْ قَلِيلاً مّن ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } الخ على أن الجملة في محل رفع بدل من قوله تعالى: { كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [الذاريات: 16] حصل بها تفيسره، أو أنها جملة لا محل لها من الإعراب مفسرة كسائر الجمل التفسيرية، وأخرج الفريابـي وابن جرير وابن المنذر وابن أبـي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: { ءاخِذِينَ مَا ءاتَـٰهُمْ رَبُّهُمْ } من الفرائض { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [الذاريات: 16] أي كانوا قبل تنزل الفرائض يعملون، ولا أظن صحة نسبته لذلك الحبر، ولا يكاد تجعل جملة { كَانُواْ } الخ عليه تفسيراً إذا صح ما نقل عنه في تفسيرها، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

و ـ الهجوع ـ النوم، وقيده الراغب بقوله: ليلاً، وغيره بالقليل. و { مَا } إما مزيدة ـ فقليلاً ـ / معمول الفعل صفة لمصدر محذوف أي هجوعاً قليلاً و { مِّنَ ٱلَّيْلِ } صفة، أو لغو متعلق ـ بيهجعون ـ و { مِنْ } للابتداء، وجملة { يَهْجَعُونَ } خبر ـ كان ـ أو { قَلِيلاً } صفة لظرف محذوف أي زماناً قليلاً و { مِّنَ ٱلَّيْلِ } صفة على نحو ـ قليل من المال عندي ـ وإما موصولة عائدها محذوف فهي فاعل { قَلِيلاً } وهو خبر ـ كان ـ و { مِّنَ ٱلَّيْلِ } حال من الموصول مقدم كأنه قيل: كانوا قد قل المقدار الذي يهجعون فيه كائناً ذلك المقدار من الليل وإما مصدرية فالمصدر فاعل { قَلِيلاً } وهو خبر كان أيضاً، و { مِّنَ ٱلَّيْلِ } بيان لا متعلق بما بعده لأن معمول المصدر لا يتقدم، أو حال من المصدر، و { مِنْ } للابتداء كذا في «الكشف» فهما من «الكشاف»، وذهب بعضهم إلى أن { مِنْ } على زيادة ـ ما ـ بمعنى في كما في قوله تعالى: { { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ } [الجمعة: 9] واعترض ابن المنير احتمال مصدريتها بأن لا يجوز في { مِّنَ ٱلَّيْلِ } كونه صفة، أو بياناً ـ للقليل ـ لأنه فيه واقع على الهجوع ولا صلة المصدر لتقدمه، وأجيب بأنه بيان للزمان المبهم؛ وحكى الطيبـي أنه إما منصوب على التبيين أو متعلق بفعل يفسره { يَهْجَعُونَ } وجوز أن يكون { مَا يَهْجَعُونَ } على ذلك الاحتمال بدلاً من اسم كان فكأنه قيل: كان هجوعهم قليلاً وهو بعيد، وجوز في { مَا } أن تكون نافية، و { قَلِيلاً } منصوب ـ بيهجعون ـ والمعنى كانوا لا يهجعون من الليل قليلاً ويحيونه كله ورواه ابن أبـي شيبة وأبو نصر عن مجاهد، ورده الزمخشري بأن { مَا } النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها لأن لها صدر الكلام وليس فيها التصرف الذي في أخواتها كلا فإنها قد تكون كجزء مما دخلت عليه نحو ـ عوتب بلا جرم ـ ولم ولن ـ لاختصاصهما بالفعل كالجزء منه، وأنت تعلم أن منع العمل هو مذهب البصريين، وفي «شرح الهادي» أن بعض النحاة أجازه مطلقاً، وبعضهم أجازه في الظرف خاصة للتوسع فيه، واستدل عليه بقوله:

ونحن عن فضلك ما استغنينا

نعم يرد على ذلك أن فيه كما في «الانتصاف» خللاً من حيث المعنى فإن طلب قيام الليل غير مستثنى منه جزء للهجوع وإن قل غير ثابت في الشرع ولا معهود اللهم إلا أن يدعى أن من ذهب إلى ذلك يقول: بأنه كان ثابتاً في الشرع، فقد أخرج ابن أبـي شيبة وابن المنذر عن عطاء أنه قال في الآية: كان ذلك إذ أمروا بقيام الليل كله فكان أبو ذر يعتمد على العصا فمكثوا شهرين ثم نزلت الرخصة { { فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } [المزمل: 20] وقال الضحاك: { كَانُواْ قَلِيلاً } في عددهم، وتم الكلام عند { قَلِيلاً } ثم ابتدأ { مّن ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } على أن { مَا } نافية؛ وفيه ما تقدم مع زيادة تفكيك للكلام، ولعل أظهر الأوجه زيادة { مَا } ونصب { قَلِيلاً } على الظرفية، و { مِّنَ ٱلَّيْلِ } صفة قيل: وفي الكلام مبالغات لفظ الهجوع بناءاً على أنه القليل من النوم، وقوله تعالى: { قَلِيلاً } و { مِّنَ ٱلَّيْلِ } لأن الليل وقت السبات والراحة وزيادة { مَا } لأنها تؤكد مضمون الجملة فتؤكد القلة وتحققها باعتبار كونها قيداً فيها.

والغرض من الآية أنهم يكابدون العبادة في أوقات الراحة وسكون النفس ولا يستريحون من مشاق النهار إلا قليلاً، قال الحسن: كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلاً، وعن عبد الله بن رواحة هجعوا قليلاً ثم قاموا، وفسر أنس بن مالك الآية ـ كما رواه جماعة عنه وصححه الحاكم - فقال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء وهي لا تدل على الاقتصار على ذلك.