التفاسير

< >
عرض

مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ
٥٧
-الذاريات

روح المعاني

وهو لبيان أن شأنه - تعالى شأنه - مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم لأنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم، ومالك ملاك العبيد نفي عز وجل أن يكون ملكه إياهم لذلك فكأنه قال سبحانه: ما أريد أن أستعين بهم كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتي. وذكر الإمام فيه وجهين: الأول أن يكون لدفع توهم الحاجة من خلقهم للعبادة، والثاني أن يكون لتقرير كونهم مخلوقين لها، وبين هذا بأن الفعل في العرف لا بد له من منفعة لكن العبيد على قسمين: قسم يتخذون لإظهار العظمة بالمثول بين أيادي ساداتهم وتعظيمهم إياهم كعبيد الملوك، وقسم يتخذون للانتفاع بهم في تحصيل الأرزاق أو لإصلاحها، فكأنه قال سبحانه: إني خلقتهم ولا بد فيهم من منفعة فليتفكروا في أنفسهم هل هم من قبيل أن يطلب منهم تحصيل رزق وليسوا كذلك فما أريد منهم من رزق، وهل هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت كالطباخ ومن يقرّب الطعام؟ وليسوا كذلك فما أريد أن يطعمون فإذاً هم عبيد من القسم الأول، فينبغي أن لا يتركوا التعظيم.

والظاهر أن المعنى ما أريد منهم من رزق لي لمكان قوله سبحانه: { وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } وإليه ذهب الإمام، وذكر في الآية لطائف: الأولى أنه سبحانه كرر نفي الإرادتين لأن السيد قد يطلب من العبد التكسب له وهو طلب الرزق وقد لا يطلب حيث كان له مال وافر لكنه يطلب قضاء / حواجه من حفظ المال وإحضار الطعام من ماله بين يديه، فنفي الإرادة الأولى لا يستلزم نفي الإرادة الثانية فكرر النهي على معنى لا أريد هذا ولا أريد ذلك، الثانية أن ترتيب النفيين كما تضمنه النظم الجليل من باب الترقي في بيان غناه عز وجل كأنه قال سبحانه: لا أطلب منهم رزقاً ولا ما هو دون ذلك وهو تقديم الطعام بين يدي السيد فإن ذلك أمر كثيراً ما يطلب من العبيد إذا كان التكسب لا يطلب منهم، الثالثة أنه سبحانه قال: { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ } دون ما أريد منهم أن يرزقون لأن التكسب لطلب العين لا الفعل، وقال سبحانه: { مَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } دون ما أريد من طعام لأن ذلك للإشارة إلى الاستغناء عما يفعله العبد الغير المأمور بالتكسب كعبد وافر المال والحاجة إليه للفعل نفسه، الرابعة، أنه جل وعلا خص الإطعام بالذكر لأن أدنى درجات الاستعانة أن يستعين السيد بعبده في تهيئة أمر الطعام ونفي الأدنى يتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى فكأنه قيل: ما أريد منهم من عين ولا عمل، الخامسة أن { مَا } لنفي الحال إلا أن المراد به الدنيا وتعرض له دون نفي الاستقبال لأن من المعلوم البين أن العبد بعد موته لا يصلح أن يطلب منه رزق أو إطعام انتهى فتأمله.

ويفهم من ظاهر كلام الزمخشري أن المعنى ما أريد منهم من رزق لي ولهم، وفي «البحر» { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ } أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم { وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } أي أن يطعموا خلقي فهو على حذف مضاف قاله ابن عباس انتهى، ونحوه ما قيل: المعنى ما أريد أن يرزقوا أحداً من خلقي ولا أريد أن يطعموه، وأسند الإطعام إلى نفسه سبحانه لأن الخلق كلهم عيال الله تعالى. ومن أطعم عيال أحد فكأنما أطعمه، وفي الحديث "يا عبدي مرضت فلم تعدني وجعت فلم تطعمني" فإنه كما يدل عليه آخره على معنى مرض عبدي فلم تعده وجاع فلم تطعمه؛ وقيل: الآية مقدرة بقل فتكون بمعنى قوله سبحانه: { { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } [الأنعام: 90] والغيبة فيها رعاية للحكاية إذ في مثل ذلك يجوز الأمران الغيبة والخطاب، وقد قرىء بهما في قوله تعالى: { { قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ } [آل عمران: 12]، وقيل: المراد قل لهم وفي حقهم فتلائمه الغيبة في { مِنْهُمْ } و { يُطْعِمُونِ } ولا ينافي ذلك قراءة ـ إني أنا الرزاق ـ فيما بعد لأنه حينئذ تعليل للأمر بالقول، أو الائتمار لا لعدم الإرادة، نعم لا شك في أنه قول بعيد جداً.