التفاسير

< >
عرض

فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ
٦٠
-الذاريات

روح المعاني

{ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } / أي فويل لهم. ووضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وإشعاراً بعلة الحكم. والفاء لترتيب ثبوت الويل لهم على أن لهم عذاباً عظيماً كما أن الفاء التي قبلها لترتيب النهي عن الاستعجال على ذلك. و { مِنْ } في قوله سبحانه: { مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِى يُوعَدُونَ } للتعليل؛ والعائد على الموصول محذوف أي يوعدونه أو يوعدون به على قول. والمراد بذلك اليوم قيل: يوم بدر، ورجح بأنه الأوفق لما قبله من حيث إنه ذنوب من العذاب الدنيوي، وقيل: يوم القيامة، ورجح بأنه الأنسب لما في صدر السورة الكريمة الآتية، والله تعالى أعلم.

ومما قاله بعض أهل الإشارة في بعض الآيات: { { وَٱلذٰرِيَـٰتِ ذَرْواً } [الذاريات: 1] إشارة إلى الرياح التي تحمل أنين المشتاقين المتعرضين لنفحات الألطاف إلى ساحات العزة، ثم تأتي بنسيم نفحات الحق إلى مشام المحبين فيجدون راحة مّا من غلبات اللوعة { { فَٱلْحَـٰمِلَـٰتِ وِقْراً } [الذاريات: 2] إشارة إلى سحائب ألطاف الألوهية تحمل أمطار مراحم الربوبية فتمطر على قلوب الصديقين { { فَٱلْجَـٰرِيَـٰتِ يُسْراً } [الذاريات: 3] إشارة إلى سفن أفئدة المحبين تجري برياح العناية في بحر التوحيد على أيسر حال { { فَٱلْمُقَسّمَـٰتِ أَمْراً } [الذاريات: 4] إشارة إلى الملائكة النازلين من حظائر القدس بالبشائر والمعارف على قلوب أهل الاستقامة، وإن شئت جعلت الكل إشارة إلى أنواع رياح العناية فمنها ما يطير بالقلوب في جو الغيوب، وقد قال العاشق المجازي:

خذا من صبا نجد أماناً لقلبه فقد كاد رياها يطير بلبه
وإيا كما ذاك النسيم فإنه متى هب كان الوجد أيسر خطبه

ومنها: الحاملات وقراً دواء قلوب العاشقين كما قيل:

أيا جبلى نعمان بالله خليا نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها
أجد بردها أو تشف مني حرارة على كبد لم يبق إلا صميمها
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت على نفس مهموم تجلت همومها

ومنها { ٱلْجَارِيَاتِ } من مهاب حضرات القدس إلى أفئدة أهل الأنس بسهولة لتنعش قلوبهم، ومنها { ٱلْمُقَسِّمَاتِ } ما جاءت به مما عبق بها من آثار الحضرة الإلـٰهية على نفوس المستعدين حسب استعداداتهم وإن شئت قلت غير ذلك فالباب واسع { { وَٱلسَّمَاءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ } [الذاريات: 7] إشارة إلى سماء القلب فإنها ذات طرائق إلى الله عز وجل { { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ } [الذاريات: 15] إشارة إلى جنات الوصال وعيون الحكمة { { وَبِٱلأَسْحَـٰرِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات: 18] يطلبون غفر أي ستر وجودهم بوجود محبوبهم، أو يطلبون غفران ذنب رؤية عبادتهم من أول الليل إلى السحر { { وَمِن كُلّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [الذاريات: 49] إشارة إلى أن جميع ما يرى بارزاً من الموجودات ليس واحداً وحدة حقيقية بل هو مركب ولا أقل من كونه مركباً من الإمكان، وشيء آخر فليس الواحد الحقيقي إلا الله تعالى الذي حقيقته سبحانه إنيته { { فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ } [الذاريات: 50] بترك ما سواه عز وجل. { { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] أي ليعرفون، وهو عندهم إشارة إلى ما صححوه كشفاً من روايته صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه أنه قال: "كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف" وفي كتاب «الأنوار السنية» للسيد نور الدين السمهودي بلفظ "كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت هذا الخلق ليعرفوني فبي عرفوني" وفي «المقاصد الحسنة» للسخاوي بلفظ: "كنت كنزاً لا أعرف فخلقت خلقاً فَعَرَّفتهم بـي / فعرفوني" إلى غير ذلك، وهو مشكل لأن الخفاء أمر نسبـي فلا بد فيه من مخفي ومخفي عنه فحيث لم يكن خلق لم يكن مخفي عنه فلا يتحقق الخفاء، وأجيب أولاً: بأن الخفاء عن الأعيان الثابتة لأن الأشياء في ثبوتها لا إدراك لها وجودياً فكان الله سبحانه مخفياً عنها غير معروف لها معرفة وجودية فأحب أن يعرف معرفة حادثة من موجود حادث فخلق الخلق لأن معرفتهم الوجودية فرع وجودهم فَتَعَرَّفَ سبحانه إليهم بأنواع التجليات على حسب تفاوت الاستعدادات فعرفوا أنفسهم بالتجليات فعرفوا الله تعالى من ذلك فبه سبحانه عرفوه، وثانياً: بأن المراد بالخفاء لازمه وهو عدم معرفة أحد به جل وعلا، ويؤيده ما في لفظ السخاوي من قوله: لا أعرف بدل مخفياً، وثالثاً: بأن مخفياً بمعنى ظاهراً من أخفاه أي أظهره على أن الهمزة للإزالة أي أزال خفاءه، وترتيب قوله سبحانه: «فأحببت أن أعرف» الخ عليه باعتبار أن الظهور متى كان قوياً أوجب الجهالة بحال الظاهر فخلق سبحانه الخلق ليكونوا كالحجاب فيتمكن معه من المعرفة، ألا يرى أن الشمس لشدة ظهورها لا تستطيع أكثر الأبصار الوقوف على حالها إلا بواسطة وضع بعض الحجب بينها وبينها وهو كما ترى لا يخلو عن بحث، وأما إطلاق الكنز عليه عز وجل فقد ورد، روى الديلمي في «مسنده» عن أنس مرفوعاً "كنز المؤمن ربه" أي فإن منه سبحانه كل ما يناله من أمر نفيس في الدارين، والشيخ محي الدين قدس سره ذكر في معنى ـ الكنز غير ذلك فقال في الباب الثلثمائة والثمانية والخمسين من «فتوحاته»: لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني العلم الحادث في قوله: «كنت كنزاً» الخ فجعل نفسه كنزاً، والكنز لا يكون إلا مكتنزاً في شيء فلم يكن كنز الحق نفسه إلا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كان الحق مكنوزاً فلما ألبس الحق الإنسان ثوب شيئية الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجوده وعلم أنه سبحانه كان مكنوزاً فيه في شيئية ثبوته وو لا يشعر به انتهى، وهو منطق الطير الذي لا نعرفه نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى بمنه وكرمه.