التفاسير

< >
عرض

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ
٤٦
-الرحمن

روح المعاني

{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ } الخ شروع في تعديد الآلاء التي تفاض في الآخرة. و { مَّقَامِ } مصدر ميمي بمعنى القيام مضاف إلى الفاعل أي ولمن خاف قيام ربه وكونه مهيمناً عليه مراقباً له حافظاً لأحواله، فالقيام هنا مثله في قوله تعالى: { { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد: 33] وهذا مروي عن مجاهد وقتادة، أو هو اسم مكان، والمراد به مكان وقوف الخلق في يوم القيامة للحساب، والإضافة إليه تعالى لامية اختصاصية لأن الملك له عز وجل وحده فيه بحسب نفس الأمر، والظاهر والخلق قائمون له كما قال سبحانه: { { يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [المطففين: 6] منتظرون ما يحل عليهم من قبله جل شأنه، وزعم بعضهم أن الإضافة على هذا الوجه لأدنى ملابسة وليس بشيء، وقيل: المعنى ولمن خاف مقامه عند ربه على أن المقام مصدر أو اسم مكان وهو للخائف نفسه، وإضافته / للرب لأنه عنده تعالى فهي مثلها في قولهم: شاة رقود الحلب، وهي بمعنى ـ عند ـ عند الكوفيين أي رقود عند الحلب، وبمعنى اللام عند الجمهور كما صرح به شراح «التسهيل» وليست لأدنى ملابسة كما زعم أيضاً، ثم إن المراد بالعندية هنا مما لا يخفى، وجوّز أن يكون مقحماً على سبيل الكناية، فالمراد ولمن خاف ربه لكن بطريق برهاني بليغ، ومثله قول الشماخ:

ذعرت به القطا ونفيت عنه (مقام الذئب) كالرجل اللعين

وهو الأظهر على ما ذكره صاحب «الكشف»، والظاهر أن المراد ولكل فرد فرد من الخائفين:

{ جَنَّتَانِ } فقيل: إحداهما منزله ومحل زيارة أحبابه له، والأخرى منزل أزواجه وخدمه، وإليه ذهب الجبائي، وقيل: بستانان بستان داخل قصره وبستان خارجه، وقيل: منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر لتتوفر دواعي لذته وتظهر ثمار كرامته، وأين هذا ممن يطوف بين النار وبين حميم آن؟ وجوز أن يقال: جنة لعقيدته وجنة لعمله، أو جنة لفعل الطاعات وجنة لترك المعاصي، أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه، أو إحداهما روحانية والأخرى جسمانية، ولا يخفى أن الصفات الآتية ظاهرة في الجسمانية. وقال مقاتل: جنة عدن وجنة نعيم، وقيل: المراد لكل خائفين منكما جنتان جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني، فإن الخطاب للفريقين، وهذا عندي خلاف الظاهر، وفي الآثار ما يبعده، فقد أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» عن الحسن أنه كان شاب على عهد [عمر بن الخطاب] رضي الله تعالى عنه ملازم للمسجد والعبادة فعشقته جارية فأتته في خلوة فكلمته فحدثته نفسه بذلك فشهق شهقة فغشي عليه فجاء عم له فحمله إلى بيته فلما أفاق قال: يا عم انطلق إلى عمر فأقرئه مني السلام وقل له ما جزاء من خاف مقام ربه؟ فانطلق فأخبر عمر وقد شهق الفتى شهقة أخرى فمات [منها] فوقف عليه عمر رضي الله تعالى عنه فقال: لك جنتان لك جنتان.

((والخوف في الأصل توقع مكروه عند أمارة مظنونة أو معلومة ويضاده الأمن قال الراغب: والخوف من الله تعالى لا يراد به ما يخطر بالبال من الرعب كاستشعار الخوف من الأسد بل إنما يراد به الكف عن المعاصي وتحري الطاعات، ولذلك قيل: لا يعد خائفاً من لم يكن للذنوب تاركاً))، ويؤيد هذا تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الخائف هنا كما أخرج ابن جرير عنه بمن ركب طاعة الله تعالى وترك معصيته.

وقول مجاهد: هو الرجل يريد الذنب فيذكر الله تعالى فيدع الذنب، والذي يظهر أن ذلك تفسير باللازم، وقد يقال: إن ارتكاب الذنب قد يجامع الخوف من الله تعالى وذلك كما إذا غلبته نفسه ففعله خائفاً من عقابه تعالى عليه، وأيد ذلك بما أخرجه أحمد والنسائي والطبراني والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» وابن أبـي شيبة وجماعة عن أبـي الدرداء "أن النبـي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال النبـي عليه الصلاة والسلام: الثانية { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } فقلت: وإن زني وإن سرق؟ فقال الثالثة: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: نعم وإنْ رغم أنف أبـي الدرداء" وأخرج الطبراني وابن مردويه من طريق الجريري عن أخيه قال: سمعت محمد بن سعد يقرأ ـ ولمن خاف مقام ربه جنتان وإن زنى وإن سرق ـ فقلت: ليس فيه وإن زنى وإن سرق / فقال: سمعت أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه يقرؤها كذلك فأنا أقرؤها كذلك حتى أموت، وصرح بعضهم أن المراد بالخوف في الآية أشده فتأمل.

وجاء في شأن هاتين الجنتين من حديث عياض بن غنم مرفوعاً "إن عرض كل واحدة منهما مسيرة مائة عام" والآية على ما روي عن ابن الزبير وابن شوذب نزلت في أبـي بكر.

وأخرج ابن أبـي حاتم وأبو الشيخ في «العظمة» عن عطاء أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ذكر ذات يوم وفكر في القيامة والموازين والجنة والنار وصفوف الملائكة وطي السمٰوات ونسف الجبال وتكوير الشمس وانتثار الكواكب فقال: وددت أني كنت خضراً من هذه الخضر تأتي عليَّ بهيمة فتأكلني وأني لم أخلق فنزلت: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ }.