التفاسير

< >
عرض

فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٥٥
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ
٥٦
-الرحمن

روح المعاني

{ فِيهِنَّ } أي الجنان المدلول عليها بقوله تعالى: { { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن: 46] فإنه يلزم من أنه لكل خائف جنتان تعدد الجنان، وكذا على تقدير أن يكون المراد لكل خائفين من الثقلين جنتان لا سيما وقد تقدم اعتبار الجمعية في قوله تعالى: { { مُتَّكِئِينَ } [الرحمن: 54] وقال الفراء: الضمير لجنتان، والعرب توقع ضمير الجمع على المثنى ولا حاجة إليه بعدما سمعت، وقيل: الضمير للبيوت والقصور المفهومة من الجنتين أو للجنتين باعتبار ما فيهما مما ذكر، وقيل: يعود على الفرش، قال أبو حيان: وهذا قول حسن قريب المأخذ. وتعقب بأن المناسب للفرش ـ على ـ وأجيب بأنه شبه تمكنهن على الفرش بتمكن المظروف في الظرف وإيثاره للإشعار بأن أكثر حالهن الاستقرار عليها، ويجوز أن يقال: الظرفية للإشارة إلى أن الفرش إذا جلس عليها ينزل مكان الجالس منها ويرتفع ما أحاط به حتى يكاد يغيب فيها كما يشاهد في فرش الملوك المترفهين التي حشوها ريش النعام ونحوه، وقيل: الضمير للآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى والمراد معهن.

{ قَـٰصِرٰتُ ٱلطَّرْفِ } أي نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، أو يقصرن طرف الناظر إليهن عن التجاوز إلى غيرهن، قال ابن رشيق في قول امرىء القيس:

من (القاصرات الطرف) لو (دب محول من الذر فوق الأنف منها لأثرا)

أراد بالقاصرات الطرف أنها منكسرة الجفن خافضة النظر غير متطلعة لما بعد ولا ناظرة لغير زوجها، ويجوز أن يكون معناه أن طرف الناظر لا يتجاوزها كقول المتنبـي:

/ وخصر تثبت الأبصار فيه كأن عليه من حدق نطاقاً

انتهى فلا تغفل. والأكثرون على أول المعنيين اللذين ذكرناهما بل في بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير نبوي. أخرج ابن مردويه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبـي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ذلك "لا ينظرن إلا إلى أزواجهن" ومتى صح هذا ينبغي قصر الطرف عليه، وفي بعض الآثار تقول الواحدة منهن لزوجها: وعزة ربـي ما أرى في الجنة أحسن منك فالحمد لله الذي جعلني زوجك وجعلك زوجي. و { ٱلطَّرْفِ } في الأصل مصدر فلذلك وحد. { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ } قال ابن عباس: لم يفتضهن قبل أزواجهن إنس ولا جان، وفيه إشارة إلى أن ضمير (قبلهم) للأزواج، ويدل عليه { قَـٰصِرٰتُ ٱلطَّرْفِ } وفي «البحر» هو عائد على من عاد عليه الضمير في { { مُتَّكِئِينَ } [الرحمن: 54]. وأصل الطمث خروج الدم ولذلك يقال للحيض طمث، ثم أطلق على جماع الأبكار لما فيه من خروج الدم، وقيل: ثم عمم لكل جماع، وهو المروي هنا عن عكرمة، وإلى الأول ذهب الكثير، وقيل: إن التعبير به للإشارة إلى أنهن يوجدن أبكاراً كلما جومعن. ونفي طمثهن عن الإنس ظاهر، وأما عن الجن فقال مجاهد والحسن: قد تجامع الجن نساء البشر مع أزواجهن إذا لم يذكر الزوج اسم الله تعالى فنفى هنا جميع المجامعين وقيل: لا حاجة إلى ذلك إذ يكفي في نفي الطمث عن الجن إمكانه منهم، ولا شك في إمكان جماع الجني إنسية بدون أن يكون مع زوجها الغير الذاكر اسم الله تعالى، ويدل على ذلك ما رواه أبو عثمان سعيد بن دواد الزبيدي قال: كتب قوم من أهل اليمن إلى مالك يسألونه عن نكاح الجن وقالوا: إن هٰهنا رجلاً من الجن يزعم أنه يريد الحلال فقال ما أرى بذلك بأساً في الدين ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل: من زوجك؟ قالت: من الجن فيكثر الفساد في الإسلام. ثم إن دعوى أن الجن تجامع نساء البشر جماعاً حقيقياً مع أزواجهن إذا لم يذكروا اسم الله تعالى غير مسلمة عند جميع العلماء، وقوله تعالى: { { وَشَارِكْهُمْ فِى ٱلأَمْوٰلِ وَٱلأَوْلَـٰدِ } [الإسراء: 64] غير نص في المراد كما لا يخفى. وقال ضمرة بن حبيب: الجن في الجنة لهم قاصرات الطرف من الجن نوعهم، فالمعنى لم يطمث الإنسيات أحد من الإنس، ولا الجنيات أحد من الجن قبل أزواجهن، وقد أخرج نحو هذا عنه ابن أبـي حاتم، وظاهره أن ما للجن لسن من الحور.

ونقل الطبرسي عنه أنهن من الحور وكذا الإنسيات، ولا مانع من أن يخلق الله تعالى في الجنة حوراً للإنس يشاكلنهم يقال لهن لذلك إنسيات، وحوراً للجن يشاكلنهم يقال لهن لذلك جنيات، ويجوز أن تكون الحور كلهن نوعاً واحداً ويعطى الجني منهن لكنه في تلك النشأة غيره في هذه النشأة، ويقال: ما يعطاه الإنسي منهن لم يطمثها إنسي قبله، وما يعطاه الجني لم يطمثها جني قبله وبهذا فسر البلخي الآية، وقال الشعبـي والكلبـي: تلك القاصرات الطرف من نساء الدنيا لم يمسسهن منذ أنشئن النشأة الآخرة خلق قبل، والذي يعطاه الإنسي زوجته المؤمنة التي كانت له في الدنيا ويعطى غيرها من نسائها المؤمنات أيضاً، وكذا الجني يعطي زوجته المؤمنة التي كانت له في الدنيا من الجن ويعطى غيرها من نساء الجن المؤمنات أيضاً، ويبعد أن يعطي الجني من نساء الدنيا الإنسيات في الآخرة. والذي يغلب على الظن أن الإنسي يعطي من الإنسيات والحور، والجني يعطي من الجنيات والحور، ولا يعطي إنسى جنية، ولا جني إنسية وما يعطاه المؤمن إنسياً كان أو جنياً من الحور شيء يليق به وتشتهيه نفسه، وحقيقة تلك النشأة وراء ما يخطر بالبال.

واستدل بالآية على أن الجن يدخلون الجنة ويجامعون فيها كالإنس فهم باقون فيها منعمين كبقاء المعذبين منهم في النار، وهو مقتضى ظاهر ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد وابن أبـي ليلى / والأوزاعي، وعليه الأكثر كما ذكره العيني في «شرح البخاري» من أنهم يثابون على الطاعة ويعاقبون على المعصية، ويدخلون الجنة فإن ظاهره أنهم كالإنس يوم القيامة، وعن الإمام أبـي حنيفة ثلاث روايات الأولى أنهم لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ثم يقال لهم كونوا تراباً كسائر الحيوانات، والثانية أنهم من أهل الجنة ولا ثواب لهم أي زائد على دخولها، الثالثة التوقف قال الكردري: وهو في أكثر الروايات، وفي «فتاوى أبـي إسحٰق بن الصفار» أن الإمام يقول: لا يكونون في الجنة ولا في النار ولكن في معلوم الله تعالى. ونقل عن مالك وطائفة أنهم يكونون في ربض الجنة، وقيل: هم أصحاب الأعراف، وعن الضحاك أنهم يلهمون التسبيح والذكر فيصيبون من لذته ما يصيبه بنو آدم من نعيم الجنة.

وعلى القول بدخولهم الجنة قيل: نراهم ولا يرونا عكس ما كانوا عليه في الدنيا، وإليه ذهب الحرث المحاسبـي، وفي «اليواقيت» الخواص منهم يرونا كما أن الخواص منا يرونهم في الدنيا، وعلى القول بأنهم يتنعمون في الجنة قيل: إن تنعمهم بغير رؤيته عز وجل فإنهم لا يرونه، وكذا الملائكة عليهم السلام ما عدا جبريل عليه السلام فإنه يراه سبحانه مرة ولا يرى بعدها على ما حكاه أبو إسحٰق إبراهيم بن الصفار في «فتاويه» عن أبيه، والأصح ما عليه الأكثر مما قدمناه وأنهم لا فرق بينهم وبين البشر في الرؤية وتمامه في محله.

وقرأ طلحة وعيسى وأصحاب عبد الله { يطمثهن } بضم الميم هنا وفيما بعد، وقرأ أناس بضمه في الأول وكسره في الثاني، وناس بالعكس، وناس بالتخيير، والجحدري بفتح الميم فيهما. والجملة صفة ـ لقاصرات الطرف ـ لأن إضافتها لفظية أو حال منها لتخصيصها بالإضافة.