التفاسير

< >
عرض

فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٧٧
تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ
٧٨
-الرحمن

روح المعاني

وقوله عز وجل: { تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبّكَ } تنزيه وتقديس له تعالى، فيه تقرير لما ذكر في هذه السورة الكريمة من آلائه جل شأنه الفائضة على الأنام، ـ فتبارك ـ بمعنى تعالى لأنه يكون بمعناه وهو أنسب بالوصف الآتي، وقد ورد في الأحاديث "تعالى اسمه" أي تعالى اسمه الجليل الذي من جملته ما صدرت به السورة من اسم الرحمن المنبـىء عن إفاضة الآلاء المفصلة، وارتفع مما لا يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها جحود نعمائه وتكذيبها، وإذا كان حال اسمه تعالى بملابسة دلالته عليه سبحانه كذلك فما ظنك بذاته الأقدس الأعلى؟ وقيل: الاسم بمعنى الصفة لأنها علامة على موصوفها، وقيل: هو مقحم كما في قول من قال:

ثم اسم السلام عليكما

وقيل: هو بمعنى المسمى، وزعم بعضهم أن الأنسب بما قصد من هذه السورة الكريمة وهو تعدد الآلاء والنعم تفسير { تَبَـٰرَكَ } بكثرت خيراته ثم إنه لا بعد في إسناده بهذا المعنى لاسمه تعالى إذ به يستمطر فيغاث ويستنصر فيعان.

وقوله سبحانه: { ذِى ٱلْجَلْـٰلِ وَالإِكْرام } صفة للرب ووصف جل وعلا بذلك تكميلاً لما ذكر من التنزيه والتقرير. وقرأ ابن عامر وأهل الشام ـ ذو ـ بالرفع على أنه وصف للاسم، ووصفه بالجلال والإكرام بمعنى التكريم واضح.

هذا ومن باب الإشارة في بعض الآيات { { ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْءانَ } [الرحمٰن: 1-2] إشارة إلى ما أودعه سبحانه في الأرواح الطيبة القدسية من العلوم الحقانية الإجمالية عند استوائه عز وجل على عرش الرحمانية { { خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ } [الرحمٰن: 3] الكامل الجامع { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } وهو تفصيل تلك العلوم الإجمالية { { فَإِذَا قَرَأْنَـٰهُ فَٱتَّبِعْ قُرْءانَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة: 18-19] { { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [الرحمٰن: 5] يشير إلى شمس النبوة وقمر الولاية الدائرتين في فلك وجود الإنسان بحساب التجليات ومراتب الاستعدادات، { وٱلنَّجْمُ } القوى السفلية { وَٱلشَّجَرُ } الاستعدادات العلوية { { يَسْجُدَانِ } [الرحمٰن: 6] يتذللان بين يديه تعالى عند الرجوع إليه سبحانه { وَٱلسَّمَاء } سماء القوى الإلٰهية القدسية { رَفَعَهَا } فوق أرض البشرية { وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } [الرحمٰن: 7] القوة المميزة { { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى ٱلْمِيزَانِ } [الرحمٰن: 8] لا تتجاوزوا عند أخذ الحظوظ السفلية وإعطاء الحقوق العلوية. وجوز أن يكون الميزان الشريعة المطهرة فإنها ميزان يعرف به الكامل من الناقص { وٱلأَرْضَ } أرض البشرية { وَضَعَهَا } بسطها وفرشها { { لِلأَنَامِ } [الرحمٰن: 10] للقوى الإنسانية { فِيهَا فَـٰكِهَةٌ } من فواكه معرفة الصفات الفعلية { { وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ } [الرحمٰن: 11] وهي الشجرة الإنسانية التي هي المظهر الأعظم وذات أطوار كل طور مستور بطور آخر { وَٱلْحَبُّ } هو حب الحب المبذور في مزارع القلوب السليمة من الدغل { ذُو ٱلْعَصْفِ } أوراق المكاشفات { { وَٱلرَّيْحَانُ } [الرحمٰن: 12] ريحان المشاهدة { { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } [الرحمٰن: 17] رب مشرق شمس النبوة ومشرق قمر الولاية في العالم الجسماني ورب مغربهما في العالم الروحاني { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ } بحر سماء القوى العلوية وبحر أرض القوى السفلية { { يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ } [الرحمٰن: 19-20] حاجز القلب { { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [الرحمٰن: 22] أنواع أنوار الأسرار ونيران الأشواق { وَلَهُ ٱلْجَوَارِ المُنْشئات } [الرحمٰن: 24] سفن الخواطر المسخرة في بحر الإنسان { { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [الرحمٰن: 26] ما شم رائحة الوجود { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ } الجهة التي تليه سبحانه وهي شؤوناته عز وجل { ذُو ٱلْجَلْـٰلِ } أي الاستغناء التام عن جميع المظاهر { { وَٱلإكْرَامِ } [الرحمٰن: 27] الفيض العام يفيض على القوابل حسبما استعدت له وسألته بلسان حالها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: { يَسْأَلُهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } الخ، واستدل الشيخ الأكبر محي الدين قدس سره بقوله سبحانه: { { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } [الرحمٰن: 29] على شرف التلون، وكذا استدل به على عدم بقاء الجوهر آنين، وعلى هذا الطرز ما قيل في الآيات بعد، وذكر بعض أهل العلم أن قوله تعالى: { { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } [الرحمٰن: 13] قد ذكر إحدى وثلاثين مرة، ثمانية منها عقيب تعداد عجائب خلقه تعالى وذكر المبدأ والمعاد، وسبعة عقيب ذكر ما يشعر بالنار وأهوالها على عدد أبواب جهنم، وثمانية في وصف الجنتين الأوليين ومثلها في وصف الجنتين اللتين دونهما على عدد أبواب الجنة فكأنه أشير بذلك إلى أن من اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الجنتين من الله تعالى ووقاه جهنم ذات الأبواب السبعة؛ والله تعالى أعلم بإشارات كتابه وحقائق خطابه ودقائق كلامه التي لا تحيط بها الأفهام وتبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام.