التفاسير

< >
عرض

نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ
٧٣
-الواقعة

روح المعاني

{ نَحْنُ جَعَلْنَـٰهَا تَذْكِرَةً } استئناف مبين لمنافعها أي جعلناها تذكيراً لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها ويذكروا بها ما أوعدوا به، أو جعلناها تذكرة وأنموذجاً من جهنم لما في «الصحيحين» وغيرهما عن أبـي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: "ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم" وعلى الوجهين التذكرة من الذكر المقابل للنسيان ولم ينظر في الأول إلى أنها من جنس نار جهنم أولاً وفي الثاني نظر إلى ذلك. وقيل: تبصرة في أمر البعث لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضاد لها قادر على إعادة ما تفرقت مواده، وقيل: تبصرة في الظلام يبصر بضوئها، وفيه أن التذكرة لا تكون بمعنى التبصرة المأخوذة من البصر وكون المراد تذكرة لنار جهنم هو المأثور عن الكثيرين، ومنهم ابن عباس ومجاهد وقتادة. { وَمَتَـٰعاً } ومنفعة { لّلْمُقْوِينَ } للذين ينزلون القواء وهي القفر من أقوى دخل القواء كأصحر دخل الصحراء. وتخصيص المقوين بذلك لأنهم أحوج إليها فإن المقيمين أو النازلين بقرب منهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد. وقيل: { لّلْمُقْوِينَ } أي المسافرين، ورواه جمع عن ابن عباس وعبد بن حميد عن الحسن، وهو وابن جرير وعبد الرزاق عن قتادة بزيادة كم من قوم قد سافروا ثم أرملوا فأججوا ناراً فاستدفئوا وانتفعوا بها، وكان إطلاق المقوين على المسافرين لأنهم كثيراً ما يسلكون القفراء والمفاوز، وقيل: { لّلْمُقْوِينَ } للفقراء يستضيئون بها في الظلمة ويصطلون من البرد كأنه تصور من حال الحاصل في القفر الفقر، فقيل: أقوى فلان أي افتقر كقولهم أترب وأرمل، وقال ابن زيد: للجائعين لأنهم أقوت أي خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام فهم يحتاجون إليها لطبخ ما يأكلون. وخصوا ـ على ما قيل ـ لأن غيرهم يتنعم بها لا يجعلها متاعاً، وتعقب بأنه بعيد لعدم انحصار ما يهمهم ويسدّ خلتهم فيما لا يؤكل إلا بالطبخ. وقال عكرمة ومجاهد: المقوين المستمتعين بها من الناس أجمعين المسافرين والحاضرين يستضيئون بها ويصطلون من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز، قال العلامة الطيبـي والطبرسي: وعلى هذا القول ـ المقوى ـ من الأضداد يقال للفقير: مقو لخلوه من المال، وللغني مقو لقوّته على ما يريد يقال: أقوى الرجل إذا صار إلى حال القوة والمعنى متاعاً للأغنياء والفقراء لأنه لا غنى لأحد عنها انتهى. وفيه بحث لا يخفى، ولعل الأقرب عليه أنه أريد بالاقواء الاحتياج والمستمتع بها محتاج إليها فتدبر.

وتأخير هذه المنفعة للتنبيه على أن الأهم هو النفع الأخروي. وتقديم أمر الماء على أمر النار لأن الاحتياج إليه أشد وأكثر والانتفاع به أعم وأوفر، وقال بعضهم: قدم أمر خلق الإنسان من نطفة لأن النعمة في ذلك قبل النعمة في الثلاثة بعد، ثم ذكر بعده ما به قوام الإنسان من فائدة الحرث وهو الطعام الذي لا يستغنى عنه الجسد الحي وذلك الحب الذي يختبز فيحتاج بعد حصوله إلى حصول الماء ليعجن به فلذا ذكر بعده ثم إلى النار لتصيره خبزاً فلذا ذكرت بعد الماء وهو كما ترى.

واستحسن بعضهم من القارىء أن يقول بعد كل جملة استفهامية من الجمل السابقة: بل أنت يا رب، فقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر والحاكم والبيهقي في «سننه» عن حُجْر المَدَرِيّ / قال: بت عند عليّ كرم الله تعالى وجهه فسمعته وهو يصلي بالليل يقرأ فمر بهذه الآية { { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ } [الواقعة: 58-59] فقال: بل أنت يا رب ثلاثاً، ثم قرأ { أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } [الواقعة: 64] فقال: بل أنت يا رب ثلاثاً، ثم قرأ { { أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ } [الواقعة: 69] فقال: بل أنت يا رب ثلاثاً، ثم قرأ { { أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } [الواقعة: 72] فقال: بل أنت يا رب ثلاثاً، وأنت تعلم أن في استحسان قول مثل ذلك في الصلاة اختلافاً بين العلماء.