التفاسير

< >
عرض

وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١٠
-الحديد

روح المعاني

وقوله عز وجل: { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ } توبيخ على ترك الإنفاق إما للمؤمنين الغير المنفقين أو لأولئك الموبخين أولاً على ترك الإيمان، وبخهم سبحانه على ذلك بعد توبيخهم على ترك الإيمان بإنكار أن يكون لهم في ذلك أيضاً عذر من الأعذار. و{ أَن } مصدرية لا زائدة كما قيل، واقتضاه كلام الأخفش، والكلام على تقدير حرف الجر، فالمصدر المؤل في محل نصب أو جر على القولين، وحذف مفعول الإنفاق للعلم به مما تقدم.

وقوله تعالى: { فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } لتشديد التوبيخ، والمراد به كل خير يقربهم إليه تعالى على سبيل الاستعارة التصريحية أي أيّ شيء لكم في أن لا تنفقوا فيما هو قربة إلى الله تعالى ما هو له في الحقيقة وإنما أنتم خلفاؤه سبحانه في صرفه إلى ما عينه عز وجل من المصارف، أو ما انتقل إليكم من غيركم وسينتقل منكم إلى الغير.

{ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي يرث كل شيء فيهما ولا يبقى لأحد مال، على أن ميراثهما مجاز أو كناية عن ميراث ما فيهما لأن أخذ الظرف يلزمه أخذ المظروف. وجوز أن يراد يرثهما وما فيهما، واختير الأول أنه يكفي لتوبيخهم إذ لا علاقة لأخذ السماوات والأرض هنا. والجملة حال من فاعل { أَلاَّ تُنفِقُواْ } أو مفعوله مؤكدة للتوبيخ، فإن ترك الإنفاق بغير سبب قبيح منكر ومع تحقق ما يوجب الإنفاق أشد في القبح وأدخل في الإنكار فإن بيان بقاء جميع ما في السماوات والأرض من الأموال بالآخرة لله عز وجل من غير أن يبقى لأحد من أصحابها شيء أقوى في إيجاب الإنفاق عليهم من بيان أنها لله تعالى في الحقيقة، أو أنها انتقلت إليهم من غيرهم كأنه قيل: وما لكم في ترك إنفاقها في سبيل تعالى، والحال أنه لا يبقى لكم ولا لغيركم منها شيء بل تبقى كلها لله عز وجل. وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لزيادة التقرير وتربية المهابة.

وقوله تعالى: { لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَـٰتَلَ } بيان لتفاوت درجات المنفقين حسب تفاوت أحوالهم في الإنفاق بعد بيان أن لهم أجراً كبيراً على الإطلاق حثاً لهم على تحري الأفضل، / وعطف القتال على الإنفاق للإيذان بأنه من أهم مواد الإنفاق مع كونه في نفسه من أفضل العبادات وأنه لا يخلو من الإنفاق أصلاً وقسيم { مَّنْ أَنفَقَ } محذوف أي لا يستوي ذلك وغيره، وحذف لظهوره ودلالة ما بعد عليه.

والفتح فتح مكة على ما روي عن قتادة وزيد بن أسلم ومجاهد وهو المشهور فتعريفه للعهد أو للجنس ادعاءاً، وقال الشعبـي: هو فتح الحديبية وقد مر وجه تسميته فتحاً في سورة الفتح، وفي بعض الآثار ما يدل عليه. أخرج ابن جرير وابن أبـي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في «الدلائل» من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار "عن أبـي سعيد الخدري قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كان بعسفان قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: يوشك أن يأتي قوم يحتقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا: من هم يا رسول الله أقريش؟ قال: لا ولكن هم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً، فقلنا: أهم خير منا يا رسول الله؟ قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مدّ أحدكم ولا نصيفه ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس { لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ } الآية" .

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما { قَبْلُ } بغير { مِنْ }.

{ أُوْلَـٰئِكَ } إشارة إلى { مَّنْ أَنفَقَ }، والجمع بالنظر إلى معنى { مِنْ } كما أن إفراد الضميرين السابقين بالنظر إلى لفظها، ووضع اسم الإشارة البعيد موضع الضمير للتعظيم والإشعار بأن مدار الحكم هو إنفاقهم قبل الفتح وقتالهم، ومحله الرفع على الابتداء؛ والخبر قوله تعالى: { أَعْظَمُ دَرَجَةً } أي أولئك المنعوتون بذينك النعتين الجليلين أرفع منزلة وأجل قدراً. { مّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ } بعد الفتح { وَقُتّلُواْ } وذهب بعضهم إلى أن فاعل { لاَ يَسْتَوِى } ضمير يعود على الإنفاق أي لا يستوي هو أي الإنفاق أي جنسه إذ منه ما هو قبل الفتح ومنه ما هو بعده، و { مَّنْ أَنفَقَ } مبتدأ، وجملة { أُوْلَـئِكَ أَعْظَمُ } خبره وفيه تفكيك الكلام وخروج عن الظاهر لغير موجب فالوجه ما تقدم، ويعلم منه التزاماً التفاوت بين الإنفاق قبل الفتح والإنفاق بعده، وإنما كان أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا بعد لأنهم إنما فعلوا ما فعلوا عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال لقلة المسلمين وكثرة أعدائهم وعدم ما ترغب فيه النفوس طبعاً من كثرة الغنائم فكان ذلك أنفع وأشد على النفس وفاعله أقوى يقيناً بما عند الله تعالى وأعظم رغبة فيه، ولا كذلك الذين أنفقوا بعد.

{ وَكُلاًّ } أي كل واحد من الفريقين لا الأولين فقط { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } أي المثوبة الحسنى وهي الجنة على ما روي عن مجاهد وقتادة، وقيل: أعم من ذلك والنصر والغنيمة في الدنيا.

وقرأ ابن عامر وعبد الوارث ـ وكل ـ بالرفع، والظاهر أنه مبتدأ والجملة بعده خبر والعائد محذوف أي وعده كما في قوله:

وخالد (يحمد) ساداتنا بالحق لا يحمد بالباطل

يريد يحمده، والجملة عطف على { أُوْلَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً } وبينهما من التطابق ما ليس على قراءة الجمهور، ومنع البصريون حذف العائد من خبر المبتدا، وقالوا: لا يجوز إلا في الشعر بخلاف حذفه من جملة الصفة وهم محجوجون بهذه القراءة، وقول بعضهم فيها: إن كل خبر مبتدأ تقديره: وأولئك كل، وجملة { وَعَدَ ٱللَّهُ } صفة ـ كل ـ تأويل ركيك، وفيه زيادة حذف، على أن بعض النحاة منع وصف ـ كل ـ بالجملة لأنه معرفة بتقدير وكلهم، وقال الشهاب: الصحيح ما ذهب إليه ابن مالك من أن عدم جواز حذف العائد من جملة الخبر / في غير ـ كل ـ وما ضاهاها في الافتقار والعموم فإنه في ذلك مطرد لكن ادعى فيه الإجماع وهو محل نزاع.

{ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } عالم بظاهره وباطنه ويجازيكم على حسبه فالكلام وعد ووعيد.

وفي الآيات من الدلالة على فضل السابقين المهاجرين والأنصار ما لا يخفى، والمراد بهم المؤمنون المنفقون المقاتلون قبل فتح مكة أو قبل الحديبية بناءاً على الخلاف السابق، والآية على ما ذكره الواحدي عن الكلبـي نزلت في أبـي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي بسببه، وأنت تعلم أن خصوص السبب لا يدل على تخصيص الحكم، فلذلك قال: { أُوْلَـٰئِكَ } ليشمل غيره رضي الله تعالى عنه ممن اتصف بذلك، نعم هو أكمل الأفراد فإنه أنفق قبل الفتح وقبل الهجرة جميع ماله وبذل نفسه معه عليه الصلاة والسلام ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "ليس أحد أمنّ علي بصحبته من أبـي بكر" وذلك يكفي لنزولها فيه.

وفي «الكشاف» إن { أُوْلَـٰئِكَ } هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال النبـي صلى الله عليه وسلم فيهم: "ولو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه" قال الطيبـي: الحديث من رواية البخاري ومسلم وأبـي داود والترمذي عن أبـي سعيد الخدري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أصحابـي فلو أن أحداً أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه" ، وتعقبه في «الكشف» بأنه على هذا لا يختص بالسابقين الأولين كما أشار في «الكشاف» إليه وهو مبني على أن الخطاب في «لا تسبوا» ليس للحاضرين ولا للموجودين في عصره صلى الله عليه وسلم بل لكل من يصلح للخطاب كما في قوله تعالى: { { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ } [الأنعام: 30] الآية وإلا فقد قيل: إن الخطاب يقتضي الحضور والوجود ولا بد من مغايرة المخاطبين بالنهي عن سبهم فهم السابقون الكاملون في الصحبة.

وأقول شاع الاستدلال بهذا الحديث على فضل الصحابة مطلقاً بناءاً على ما قالوا: إن إضافة الجمع تفيد الاستغراق وعليه صاحب «الكشف»، واستشكل أمر الخطاب، وأجيب عنه بما سمعت وبأنه على حدّ خطاب الله تعالى الأزلي لكن في بعض الأخبار ما يؤيد أن المخاطبين بعض من الصحابة والممدوحين بعض آخر منهم فتكون الإضافة للعهد أو بحمل الأصحاب على الكاملين في الصحبة. أخرج أحمد عن أنس قال: "كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال خالد لعبد الرحمن بن عوف: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغ النبـي صلى الله عليه وسلم فقال: دعوا لي أصحابـي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد ـ أو مثل الجبال ـ ذهباً ما بلغتم أعمالهم" ثم في هذا الحديث تأييد مّا لكون أولئك هم الذين أنفقوا قبل الحديبية لأن إسلامه رضي الله تعالى عنه كان بين الحديبية وفتح مكة كما في «التقريب» وغيره، والزمخشري فسر الفتح بفتح مكة فلا تغفل، قال الجلال المحلي: كون الخطاب في «لا تسبوا» للصحابة السابين، وقال: نزلهم صلى الله عليه وسلم بسبهم الذي لا يليق بهم منزلة غيرهم حيث علل بما ذكره وهو وجه حسن فتدبر.