التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ
١٩
-الحديد

روح المعاني

{ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } قد بين كيفية إيمانهم في خاتمة سورة البقرة، والموصول مبتدأ أول، وقوله تعالى: { أُوْلَٰئِكَ } مبتدأ ثان، وهو إشارة إلى الموصول، وما فيه من معنى البعد لما مر مراراً، وقوله سبحانه: / { هُمُ } مبتدأ ثالث، وقوله عز وجل: { ٱلصّدّيقُونَ وَٱلشُّهَدَاء } خبر الثالث، والجملة خبر الثاني وهو مع خبره خبر الأول أو { هم } ضمير فصل وما بعده خبر الثاني، وقوله تعالى: { عِندَ رَبّهِمْ } متعلق على ما قيل: بالثبوت الذي تقتضيه الجملة أي أولئك عند ربهم عز وجل وفي حكمه وعلمه سبحانه هم الصديقون والشهداء. والمراد أولئك في حكم الله تعالى بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ورفعة المحل وهم الذين سبقوا إلى التصديق ورسخوا فيه واستشهدوا في سبيل الله جل جلاله، وسمي من قتل مجاهداً في سبيله تعالى شهيداً لأن الله سبحانه وملائكته عليهم السلام شهود له بالجنة، وقيل: لأنه حي لم يمت كأنه شاهد أي حاضر، وقيل: لأن ملائكة الرحمة تشهده، وقيل: لأنه شهد ما أعد الله تعالى له من الكرامة، وقيل: غير ذلك فهو إما فعيل بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول على اختلاف التأويل.

وقوله تعالى: { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } خبر ثان للموصول، على أنه جملة من مبتدأ وخبر، أو { لَهُمْ } الخبر وما بعده مرتفع به على الفاعلية وضمير { لَهُمْ } للموصول، والضميران الأخيران للصديقين والشهداء، والغرض بيان ثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال أي أولئك لهم مثل أجر الصديقين والشهداء ونورهم المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال، وقد حذف أداة التشبيه تنبيهاً على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد كما فعل ذلك أولاً حيث قيل: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ وَٱلشُّهَدَآءُ } وليست المماثلة بين ما للفريق الأول من الأجر والنور وبين تمام ما للفريقين الأخيرين، بل بين تمام ما للأول من الأصل والإضعاف وبين ما للأخيرين من الأصل بدون الإضعاف، فالإضعاف هو الذي امتاز به الفريقان الأخيران على الفريق الأول وقد لا يعتبر تشبيه بليغ في الكلام أصلاً ويبقى على ظاهره والضمائر كلها للموصول أي أولئك هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله تعالى وأخبار رسله عليهم الصلاة والسلام والقائمون بالشهادة لله سبحانه بالوحدانية وسائر صفات الكمال ولهم بما يليق بهم من ذلك لهم الأجر والنور الموعودان لهم، وقال بعضهم: وصفهم بالشهادة لكونهم شهداء على الناس كما نطق به قوله تعالى: { { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ } [البقرة: 143] فعند ربهم متعلق بالشهداء، والمراد والشهداء على الناس يوم القيامة، وجوز تعلقه بالشهداء أيضاً على الوجه الأول على معنى الذين شهدوا مزيد الكرامة بالقتل في سبيل الله تعالى يوم القيامة أو في حظيرة رحمته عز وجل أو نحو ذلك.

ويشهد لكون الشهداء معطوفاً على الصديقين آثار كثيرة. أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن مؤمني أمتي شهداء" ، ثم تلا النبـي صلى الله عليه وسلم: { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلصّدّيقُونَ وَٱلشُّهَدَاء عِندَ رَبّهِمْ }، وأخرج ابن أبـي حاتم عن أبـي هريرة أنه قال يوماً لقوم عنده: كلكم صديق وشهيد قيل له: ما تقول يا أبا هريرة؟ قال: اقرءوا { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } الآية، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد قال: كل مؤمن صديق وشهيد ثم تلا الآية، وأخرج عبد بن حميد نحوه عن عمرو بن ميمون، وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني قال: "جاء رجل إلى النبـي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء" .

وينبغي أن يحمل { ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } على من لهم كمال في ذلك يعتدّ به ولا يتحقق إلا بفعل طاعات يعتدّ بها وإلا فيبعد أن يكون المؤمن المنهمك في الشهوات الغافل عن الطاعات صديقاً شهيداً، / ويستأنس لذلك بما جاء من حديث عمر رضي الله تعالى عنه: "ما لكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس أن لا تعيبوا عليه؟ قالوا: نخاف لسانه قال: ذلك أحرى أن لا تكونوا شهداء" ، قال ابن الأثير: أي إذا لم تفعلوا ذلك لم تكونوا في جملة الشهداء الذين يستشهدون يوم القيامة على الأمم التي كذبت أنبياءها، وكذا بقوله عليه الصلاة والسلام: "اللعانون لا يكونون شهداء" بناءاً على أحد قولين فيه.

وفي بعض الأخبار ما ظاهره إرادة طائفة من خواص المؤمنين، أخرج ابن مردويه عن أبـي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فرّ بدينه من أرض إلى أرض مخافة الفتنة على نفسه ودينه كتب عند الله صديقاً فإذا مات قبضه الله شهيداً وتلا هذه الآية: { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلصّدّيقُونَ وَٱلشُّهَدَاء } ثم قال: هذه فيهم ثم قال: والفرّارون بدينهم من أرض إلى أرض يوم القيامة مع عيسى ابن مريم في درجته في الجنة" ويجوز أن يراد من قوله: "هذه فيهم" أنها صادقة عليهم وهم داخلون فيها دخولاً أولياً، ويقال: في قوله عليه الصلاة والسلام: "مع عيسى في درجته" المراد معه في مثل درجته وتوجه المماثلة بما مر والخبر إذا صح يؤيد الوجه الأول في الآية.

وروي عن الضحاك أنها نزلت في ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وطلحة والزبير وسعد وزيد رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وهذا لا يضر في العموم كما لا يخفى، وقيل: الشهداء مبتدأ و { عِندَ رَبّهِمْ } خبره، وقيل: الخبر { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } والكلام عليهما قد تم عند قوله تعالى: { ٱلصّدّيقُونَ }، وأخرج هذا ابن جرير عن ابن عباس والضحاك قالا: { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلصّدّيقُونَ } هذه مفصولة سماهم صديقين، ثم قال: والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم.

وروى جماعة عن مسروق ما يوافقه، واختلفوا في المراد بالشهداء على هذا فقيل: الشهداء في سبيل الله تعالى. وحكي ذلك عن مقاتل بن سليمان، وقيل: الأنبياء عليهم السلام الذين يشهدون للأمم عليهم، وحكي ذلك عن مسروق ومقاتل بن حيان واختاره الفراء والزجاج، وزعم أبو حيان أن الظاهر كون الشهداء مبتدأ وما بعده خبر، ومن أنصف يعلم أنه ليس كما قال، وأن الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم هو ما تقدم. ثم النور على الجميع الأوجه على حقيقته، وعن مجاهد وغيره أنه عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى.

{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَـٰتِنَا } أي بجميعها على اختلاف أنواعها وهو إشارة إلى كفرهم بالرسل عليهم السلام جميعهم { أُوْلَـٰئِكَ } الموصوفون بتلك الصفة القبيحة { أَصْحَـٰبِ ٱلْجَحِيمِ } بحيث لا يفارقونها أبداً.