التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ
٢٥
-الحديد

روح المعاني

{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا } أي من بني آدم كما هو الظاهر { بِٱلْبَيِّنَـٰتِ } أي الحجج والمعجزات { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ } أي جنس الكتاب الشامل للكل، والظرف حال مقدرة منه على ما قال أبو حيان، وقيل: مقارنة بتنزيل الاتصال منزلة المقارنة { وَٱلْمِيزَانَ } الآلة المعروفة بين الناس كما قال ابن زيد وغيره، وإنزاله إنزال أسبابه، ولو بعيدة، وأمر الناس باتخاذه مع تعليم كيفيته.{ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } علة لإنزال الكتاب والميزان، والقيام بالقسط أي بالعدل يشمل التسوية في أمور التعامل باستعمال الميزان، وفي أمور المعاد باحتذاء الكتاب وهو لفظ جامع مشتمل على جميع ما ينبغي الاتصاف به معاشاً ومعاداً.

{ وَأَنزْلْنَا ٱلْحَدِيدَ } قال الحسن: أي خلقناه كقوله تعالى: { { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلأَنْعَـٰمِ ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوٰجٍ } [الزمر: 6] وهو تفسير بلازم الشيء فإن كل مخلوق منزل باعتبار ثبوته في اللوح وتقديره موجوداً حيث ما ثبت فيه. وقال قطرب: هيأناه لكم وأنعمنا به عليكم من نزل الضيف { فِيهِ بَأْسٌ } أي عذاب { شَدِيدٌ } لأن آلات الحرب تتخذ منه، وهذا إشارة إلى احتياج الكتاب والميزان إلى القائم بالسيف ليحصل القيام بالقسط فإن الظلم من شيم النفوس، وقوله تعالى: { وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ } أي في معايشهم ومصالحهم إذ ما من صنعة إلا / والحديد أو ما يعمل به آلتها للإيماء إلى أن القيام بالقسط كما يحتاج إلى الوازع وهو القائم بالسيف يحتاج إلى ما به قوام التعايش، ومن يقوم بذلك أيضاً ليتم التمدن المحتاج إليه النوع، وليتم القيام بالقسط، كيف وهو شامل أيضاً لما يخص المرء وحده. والجملة الظرفية في موضع الحال.

وقوله سبحانه: { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ } عطف على محذوف يدل عليه السياق أو الحال لأنها متضمنة للتعليل أي لينفعهم وليعلم الله علماً يتعلق به الجزاء من ينصره ورسله باستعمال آلات الحرب من الحديد في مجاهدة أعدائه، والحذف للإشعار بأن الثاني هو المطلوب لذاته وأن الأول مقدمة له، وجوز تعلقه بمحذوف مؤخر والواو اعتراضية أي وليعلم الخ أنزله أو مقدم والواو عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها وقد حذف المعطوف وأقيم متعلقه مقامه، وقوله تعالى: { بِٱلْغَيْبِ } حال من فاعل (ينصر)، أو من مفعوله أي غائباً منهم أو غائبين منه.

وقوله عز وجل: { إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ } اعتراض تذييلي جىء به تحقيقاً للحق وتنبيهاً على أن تكليفهم الجهاد وتعريضهم للقتال ليس لحاجته سبحانه في إعلاء كلمته وإظهار دينه إلى نصرتهم بل إنما هو لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب وإلا فهو جل وعلا غني بقدرته وعزته عنهم في كل ما يريد.

هذا وذهب الزمخشري إلى أن المراد بالرسل رسل الملائكة عليهم السلام أي أرسلناهم إلى الأنبياء عليهم السلام، وفسر ـ البينات ـ كما فسرنا بناءاً على أن الملائكة ترسل بالمعجزات كإرسالها بالحجج لتخبر بأنها معجزات وإلا فكان الظاهر الاقتصار على الحجج وإنزال الكتاب أي الوحي مع أولئك الرسل ظاهر، وإنزال الميزان بمعنى الآلة عنده على حقيقته، قال: روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام، وقال: مُرْ قومك يزنوا به، وفسره كثير بالعدل، وعن ابن عباس في إنزال الحديد: نزل مع آدم عليه السلام الميقعة والسندان والكلبتان، وروي أنه نزل ومعه المرّ والمسحاة، وقيل: نزل ومعه خمسة أشياء من الحديد: السندان والكلبتان والإبرة والمطرقة والميقعة، وفسرت بالمسن، وتجىء بمعنى المطرقة أو العظيمة منها، وقيل: ما تحدّ به الرحى، وفي حديث ابن عباس نزل آدم عليه السلام من الجنة بالباسنة وهي آلات الصناع، وقيل: سكة الحرث وليس بعربـي محض والله تعالى أعلم. واستظهر أبو حيان كون ـ ليقوم الناس بالقسط ـ علة لإنزال الميزان فقط وجوز ما ذكرناه وهو الأولى فيما أرى.