التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
٢٧
-الحديد

روح المعاني

{ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِم بِرُسُلِنَا } أي أرسلنا بعدهم رسولاً بعد رسول، وأصل التقفية جعل / الشيء خلف القفا، وضمير { آثارهم } لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم من قومهما، وقيل: لمن عاصرهما من الرسل عليهم السلام. واعترض بأنه لو عاصر رسول نوحاً فإما أن يرسل إلى قومه كهارون مع موسى عليهما السلام أو إلى غيرهم كلوط مع إبراهيم عليهما السلام ولا مجال للأول لمخالفته للواقع ولا إلى الثاني إذ ليس على الأرض قوم غيره، وأجيب بأن ذاك توجيه لجمع الضمير وكون لوط مع إبراهيم كاف فيه، وقيل: للذرية، وفيه أن الرسل المقفى بهم من الذرية فلو عاد الضمير عليهم لزم أنهم غيرهم أو اتحاد المقفى والمقفى به وتخصيص الذرية مرجع الضمير بالأوائل منهم خلاف الظاهر من غير قرينة تدل عليه.

{ وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } جعلناه بعد. وحاصل المعنى أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى الإرسال إلى عيسى عليه الصلاة والسلام { وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ } بأن أوحيناه إليه وليس هو الذي بين أيدي النصارى اليوم أعني المشتمل على قصة ولادته وقصة صلبه المفتراة. وقرأ الحسن { ٱلأَنجِيلِ } بفتح الهمزة، قال أبو الفتح: وهو مثال لا نظير له، قال الزمخشري: ((وأمره أهون من أمر البرطيل)) بفتح الباء، والكسُر أشهر وهو حجر مستطيل واستعماله في الرشوة مولد مأخوذ منه بنوع تجوز لأنه عجمي وهذا عربـي وهم يتلاعبون بالعجمي ولا يلتزمون فيه أوزانهم، وزعم بعض أن لفظ الإنجيل عربـي من نجلت بمعنى استخرجت لاستخراج الأحكام منه.

{ وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } أي خلقنا أو صيرنا ـ ففي قلوب ـ في موضع المفعول الثاني وأياً مّا كان فالمراد جعلنا ذلك في قلوبهم فهم يرأف بعضهم ببعض ويرحم بعضهم بعضاً، ونظيره في شأن أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم { { رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29] والرأفة في المشهور الرحمة لكن قال بعض الأفاضل: إنها إذا ذكرت معها يراد بالرأفة ما فيه درء الشر ورأب الصدع، وبالرحمة ما فيه جلب الخير ولذا ترى في الأغلب تقديم الرأفة على الرحمة وذلك لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح وقرىء (رآفة) على فعالة كشجاعة.

{ وَرَهْبَانِيَّةً } منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر أي وابتدعوا رهبانية { ٱبتَدَعُوهَا } فهو من باب الاشتغال، واعترض بأنه يشترط فيه ـ كما قال ابن الشجري وأبو حيان ـ أن يكون الاسم السابق مختصاً يجوز وقوعه مبتدأ والمذكور نكرة لا مسوغ لها من مسوغات الابتداء، ورد بأنه على فرض تسليم هذا الشرط، الاسم هنا موصوف معنى بما يؤخذ من تنوين التعظيم كما قيل في قولهم: شر أهر ذا ناب. ومما يدل عليه من النسبة كما ستسمعه إن شاء الله تعالى، أو منصوب بالعطف على ما قبل، وجملة { ٱبتَدَعُوهَا } في موضع الصفة والكلام على حذف مضاف أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة وحب رهبانية مبتدعة لهم، وبعضهم جعله معطوفاً على ما ذكر ولم يتعرض للحذف، وقال: الرهبانية من أفعال العباد لأنها المبالغة في العبادة بالرياضة والانقطاع عن الناس، وأصل معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف، فعلان من رهب كخشيان من خشي، وأفعال العباد يتعلق بها جعل الله تعالى عند أهل الحق وهي في عين كونها مخلوقة له تعالى مكتسبة للعبد، والزمخشري جوز العطف المذكور وفسر الجعل بالتوفيق كأنه قيل: وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها بناءاً على مذهبه أن الرهبانية فعل العبد المخلوق له باختياره، وفائدة { فِى قُلُوبِ } على هذا التصوير على ما قيل، ولا يخفى ما في هذا التفسير من العدول عن الظاهر لكن الإنصاف أنه لا يحسن العطف بدون هذا / التأويل أو اعتبار حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه على ما تقدم أو تفسير الرهبانية بما هو من أفعال القلوب كالخوف المفرط المقتضي للغلو في التعبد ويرتكب نوع تجوز في { ٱبتَدَعُوهَا } وما بعده كأن يكون المراد ابتداع أعمالها وآثارها أو ارتكاب استخدام في الكلام بأن يعتبر للرهبانية معنيان الخوف المفرط مثلاً، ويراد في جعلنا في قلوبهم رهبانية والأعمال التعبدية الشاقة كرفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهن، ويراد في { ٱبتَدَعُوهَا } وما بعده وليس الداعي للتأويل الاعتزال بل كون الرهبانية بمعنى الأعمال البدنية ليست مما تجعل في القلب كالرأفة والرحمة فتأمل.

وقرىء { رُهبانية } بضم الراء وهي منسوبة إلى الرُهبان بالضم وهو كما قال الراغب: يكون واحداً وجمعاً فالنسبة إليه باعتبار كونه واحداً ومن ظن اختصاص المضموم بالجمع قال: إنه لما اختص بطائفة مخصوصة أعطي حكم العلم فنسبته إليه كما قالوا في أنصار وأنصاري أو أن النسبة إلى رهبان المفتوح وضم الراء في المنسوب من تغييرات النسب كما في دهري بضم الدال. وقوله تعالى: { مَا كَتَبْنَـٰهَا عَلَيْهِمْ }. جملة مستأنفة، وقوله سبحانه:

{ إِلاَّ ٱبْتِغَاء رِضْوٰنِ ٱللَّهِ } استثناء منقطع أي ما فرضناها نحن عليهم رأساً ولكن ابتدعوها وألزموا أنفسهم بها ابتغاء رضوان الله تعالى، وقوله تعالى: { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي ما حافظوا عليها حق المحافظة، ذم لهم من حيث إن ذلك كالنذر وهو عهد مع الله تعالى يجب رعايته لا سيما إذا قصد به رضاه عز وجل. واستدل بذلك على أن من اعتاد تطوعاً كره له تركه، وجوز أن يكون قوله تعالى: { مَا كَتَبْنَـٰهَا } الخ صفة أخرى لرهبانية والنفي متوجه إلى قيد الفعل لا نفسه كما في الوجه الأول، وقوله سبحانه: { إِلاَّ ٱبْتِغَاء } الخ استثناء متصل من أعم العلل أي ما قضيناها عليهم بأن جعلناهم يبتدعونها لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله تعالى ويستحقوا بها الثواب، ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها ويراعوها حق رعايتها فما رعوها كذلك والوجه الأول مروي عن قتادة وجماعة، وهذا مروي عن مجاهد ولا مخالفة عليه بين { ٱبتَدَعُوهَا } و { مَا كَتَبْنَـٰهَا عَلَيْهِمْ } الخ حيث إن الأول يقتضي أنهم لم يؤمروا بها أصلاً والثاني يقتضي أنهم أمروا بها لابتغاء رضوان الله تعالى لما أشرنا إليه من معنى { مَا كَتَبْنَـٰهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَاء } الخ، ودفع بعضهم المخالفة بأن يقال: الأمر وقع بعد ابتداعها أو يؤل ابتدعوها بأنهم أول من فعلها بعد الأمر ويؤيد ما ذكره في الدفع أولاً ما أخرجه أبو داود وأبو يعلى والضياء عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ما ابتدعوها ما كتبناها عليهم" يعني الآية.

والظاهر أن ضمير { فَمَا رَعَوْهَا } لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية، والمراد نفي وقوع الرعاية من كلهم على أن المعنى فما رعاها كلهم بل بعضهم، وليس المراد بالموصول فيما سبق أشخاصاً بأعيانهم بل المراد به ما يعم النصارى إلى زمان الإسلام ولا يضر في ذلك أن أصل الابتداع كان من قوم مخصوصين لأن إسناده على نحو الإسناد في ـ بنو تميم قتلوا زيداً ـ والقاتل بعضهم. وقال الضحاك وغيره: الضمير في { فَمَا رَعَوْهَا } للأخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين، والأول أوفق بالصناعة.

والمراد بالذين آمنوا في قوله تعالى: { فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ } الذين آمنوا إيماناً صحيحاً وهو لمن أدرك وقت النبـي صلى الله عليه وسلم الإيمان به عليه الصلاة والسلام أي فآتينا الذين آمنوا منهم / إيماناً صحيحاً بعد رعاية رهبانيتهم { أَجْرَهُمْ } أي ما يختص بهم من الأجر وهو الأجر على ما سلف منهم والأجر على الإيمان به عليه الصلاة والسلام، وليس المراد بهم الذين بقوا على رعاية الرهبانية إلى زمان البعثة ولم يؤمنوا لأن رعايتها لغو محض وكفر بحت وإنما لها استتباع الأجر، ويجوز أن يقال: إن الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها هم الذين كذبوه عليه الصلاة والسلام.

قال الزجاج: قوله تعالى: { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } على ضربين: أحدهما: أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم، والآخر: وهو الأجود أن يكونوا حين بعث النبـي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا فكانوا تاركين لطاعة الله تعالى فما رعوا تلك الرهبانية، ودليل ذلك قوله تعالى: { فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ } الخ انتهى، فحمل { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } على من أدرك وقته عليه الصلاة والسلام منهم وآمن به صلى الله عليه وسلم والفاسقين في قوله تعالى: { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ } على الذين لم يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم، ومقتضى حمل { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } على ما سمعت أولاً حمله على الأعم الشامل لمن خرج عن اتباع عيسى عليه السلام من قبل. وحَمْلُ الفريقين على من مضى من المراعين لحقوق الرهبانية قبل النسخ والمخلين بها إذ ذاك بالتثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة ونحو ذلك من غير تعرض لإيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرهم به مما لا يساعده المقام.

وفي الآثار ما يأباه ففي حديث طويل أخرجه جماعة منهم الحاكم وصححه والبيهقي في «شعب الإيمان» من طرق عن ابن مسعود "اختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشر، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله: { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَـٰهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَاء رِضْوٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَـئَاتَيْنَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } الذين آمنوا بـي وصدقوني { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ } الذين حجدوا بـي وكفروا بـي" وهذا الخبر يؤيد ما استجوده الزجاج، ويعلم منه أيضاً سبب ابتداع الرهبانية.

وليس في الآية ما يدل على ذم البدعة مطلقاً، والذي تدل عليه ظاهراً ذم عدم رعاية ما التزموه، وتفصيل الكلام في البدعة ما ذكره الإمام محي الدين النووي في «شرح صحيح مسلم» ((قال العلماء: البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة فمن الواجبة تعلم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك، ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك، ومن المباحة التبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك، والحرام والمكروه ظاهران، فعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم "كل بدعة ضلالة" من العام المخصوص)).

وقال صاحب «جامع الأصول»: الابتداع من المخلوقين إن كان في خلاف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار وإن كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله تعالى إليه وحض عليه أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهو في حيز المدح وإن لم يكن مثاله موجوداً كنوع من الجود والسخاء / وفعل المعروف، ويعضد ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في صلاة التراويح: «نعمت البدعة هذه».