التفاسير

< >
عرض

لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢٩
-الحديد

روح المعاني

وقوله تعالى: { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَىْء مّن فَضْلِ ٱللَّهِ } قيل: متعلق بمضمون الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط إذ التقدير إن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا الخ، وقيل: متعلق بالأفعال الثلاثة قبله على التنازع، أو بمقدر كفعل ذلك وأعلمهم ونحوه و { لا } مزيدة مثلها في قوله تعالى: { { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف: 12] ويجوز زيادتها مع القرينة كثيراً و { أَن } مخففة من الثقيلة واسمها المحذوف ضمير أهل الكتاب أي أنهم، وقيل: ضمير الشأن وما بعد خبرها والجملة في حيز النصب على أنها مفعول { يَعْلَمَ } أي ليعلم أهل الكتاب القائلون من آمن بكتابكم منا فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم أنهم لا ينالون شيئاً من فضل الله من الأجرين وغيرهما ولا يتمكنون من نيله ما لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وحاصله الإعلام بأن إيمانهم بنبيهم لا ينفعهم شيئاً ما لم يؤمنوا بالنبـي عليه الصلاة والسلام فقولهم: من لم يؤمن بكتابكم فله أجر باطل.

/ وأخرج ابن أبـي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: لما نزلت { { أُوْلَٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } [القصص: 54] فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لنا أجران ولكم أجر فاشتد ذلك على أصحابه عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [الحديد: 28] الخ فجعل لهم سبحانه أجرين مثل ما لمؤمني أهل الكتاب، وقال الثعلبـي: فأنزل الله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } الآية فجعل لهم أجرين وزادهم النور ثم قال سبحانه: { لّئَلاَّ يَعْلَمَ } الخ، وحاصله على هذا ليعلموا أنهم ليسوا ملاك فضله عز وجل فيزووه عن المؤمنين ويستبدوا به دونهم.

وقوله تعالى: { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ } عطف على { أَلاَّ يَقْدِرُونَ } داخل معه في حيز العلم، وقوله سبحانه: { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } خبر ثان لأن أو هو الخبر وما قبله على ما قيل: حال لازمة أو استئناف، وقوله عز وجل: { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله. وذهب بعض إلى أن الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب اليهود والنصارى أو لمن يؤمن منهم بعد، فالمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أي أثبتوا على الإيمان به أو أحدثوا الإيمان به عليه الصلاة والسلام يؤتكم نصيبين من رحمته نصيباً على إيمانكم بمن آمنتم به أولاً ونصيباً على إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم آخراً ليعلم الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب أنهم لا ينالون شيئاً مما يناله المؤمنون منهم ولا يتمكنون من نيله حيث لم يأتوا بشرطه الذي هو الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، وأيد ذلك بما في «صحيح البخاري» "من كانت له أمة علمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها وأعتقها وتزوجها فله أجران، وأيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بـي فله أجران، وأيما مملوك أدى حق الله تعالى وحق مواليه فله أجران" ولا إشكال في ذلك بالنسبة إلى النصارى، ولذا قيل: الخطاب لهم لأن ملتهم غير منسوخة قيل ظهور الملة المحمدية ومعرفتهم بها فيثابون على العمل بها حتى يجب عليهم الإيمان بالنبـي صلى الله عليه وسلم فإذا آمنوا أثيبوا أيضاً فكان لهم ثوابان، نعم قد يستشكل بالنسبة إلى غيرهم لأن مللهم منسوخة بملة عيسى عليه السلام والمنسوخ لا ثواب في العمل به، ويجاب بأنه لا يبعد أن يثابوا على العمل بملتهم السابقة وإن كانت منسوخة ببركة الإسلام. وأجاب بعضهم أن الإثابة على نفس إيمان ذلك الكتابـي بنبيه وإن كان منسوخ الشريعة فإن الإيمان بكل نبـي فرض سواء كان منسوخ الشريعة أم لا، وقيل: إن { لا } في { لّئَلاَّ يَعْلَمَ } غير مزيدة وضمير (لا يقدرون) للنبـي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أي فعلنا ما فعلنا لئلا يعتقد أهل الكتاب أن الشأن لا يقدر النبـي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون به على شيء من فضل الله تعالى الذي هو عبارة عما أوتوه من سعادة الدارين ولا ينالونه، أو أنهم أي النبـي عليه الصلاة والسلام والمؤمنون لا يقدرون الخ، على أن عدم علمهم بعدم قدرتهم على ذلك كناية عن علمهم بقدرتهم عليه فيكون قوله سبحانه: { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ } الخ معطوفاً على ـ أن لا يعلم ـ داخلاً معه في حيز التعليل دون أن لا يقدر فكأنه قيل: فعلنا لئلا يعتقدوا كذا ولأن الفضل بيد الله فيكون من عطف الغاية على الغاية بناءاً على المشهور ولتكلف هذا القيل مع مخالفته لبعض القراءات لم يذهب إليه معظم المفسرين.

وقرأ خطاب بن عبد الله ـ لأن لا يعلم ـ بالإظهار، وعبد الله بن مسعود وابن عباس وعكرمة والجحدري وعبد الله بن سلمة على اختلاف (ليعلم)، وقرأ الجحدري أيضاً ـ ولييعلم ـ على أن أصله لئن يعلم فقلبت الهمزة ياءاً / لكسرة ما قبلها وأدغمت النون في الياء بغير غنة، وروى ابن مجاهد عن الحسن ـ ليلا ـ مثل ليلى اسم المرأة { يعلم } بالرفع، ووجه بأن أصله ـ لأن لا ـ بفتح لام الجر وهي لغة وعليه قوله:

أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل

فحذفت الهمزة اعتباطاً وأدغمت النون في اللام فصار ـ للا ـ فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها فأبدلوا من اللام المدغمة ياءاً نظير ما فعلوا في قيراط ودينار حيث إن الأصل قراط ودنار فأبدلوا أحد المثلين فيهما ياءاً للتخفيف فصار ـ ليلا ـ ورفع الفعل لأن أن هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع، وروى قطرب عن الحسن أيضاً ـ ليلاً ـ بكسر اللام ووجهه كالذي قبله إلا أن كسر اللام على اللغة الشهيرة في لام الجر؛ وعن ابن عباس (كي يعلم)، وعنه أيضاً (لكيلا يعلم)، وعن عبد الله وابن جبير وعكرمة (لكي يعلم). وقرأ عبد الله (أن لا يقدروا) بحذف النون على أن إن هي الناصبة للمضارع، والله تعالى أعلم.

ومما ذكره المتصوفة قدست أسرارهم في بعض آياتها: { { هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلأَخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلْبَـٰطِنُ } [الحديد: 3] قالوا: هو إشارة إلى وحدانية ذاته سبحانه المحيطة بالكل، وقالوا في قوله تعالى: { { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [الحديد: 4] إشارة إلى أنهم لا وجود لهم في جميع مراتبهم بدون وجوده عز وجل، وقوله تعالى: { { يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ } [الحديد: 6] إشارة إلى ظهور تجلي الجلال في تجلي الجمال وبالعكس { { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [الحديد: 7] إشارة للمشايخ الكاملين إلى تربية المريدين بإفاضة ما يقوي استعدادهم مما جعلهم الله تعالى متمكنين فيه من الأحوال والملكات. وقال سبحانه: { { ٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْىِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [الحديد: 17] لئلا يقنط القاسي من رحمته تعالى ويترك الاشتغال بمداواة القلب الميت { { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } [الحديد: 27] أوردها الصوفية في باب الرعاية وقسموها إلى رعاية الأعمال والأحوال والأوقات ـ ويرجع ما قالوه فيها ـ على ما قيل ـ إلى حفظها عن إيقاع خلل فيها { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } أي نصيبين نصيباً من معارف الصفات الفعلية ونصيباً من معارف الصفات الذاتية { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً } من نور ذاته عز وجل وهو على ما قيل: إشارة إلى البقاء بعد الفناء، وقيل: هذا النور إشارة إلى نور الكشف والمشاهدة رتب سبحانه جعله للمؤمن على تقواه وإيمانه برسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو نور العلم النافع الذي يتمكن معه من السير في الحضرات الإلٰهية كما يشير إليه وصفه بقوله عز وجل: { { تَمْشُونَ بِهِ } [الحديد: 28]؛ وفي بعض الآثار "من عمل بما علم علمه الله تعالى علم ما لم يعلم" وقال سبحانه: { { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ } [البقرة: 282] وكل ذلك في الحقيقة فضل الله تعالى والله عز وجل ذو الفضل العظيم نسأله سبحانه أن لا يحرمنا من فضله العظيم ولطفه العميم وأن يثبتنا على متابعة حبيبه الكريم عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسليم.