التفاسير

< >
عرض

وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٨
-الحديد

روح المعاني

وقوله عز وجل: { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } استئناف قيل: مسوق لتوبيخهم على ترك الإيمان حسبما أمروا به بإنكار أن يكون لهم في ذلك عذر ما في الجملة على أن { لاَ تُؤْمِنُونَ } حال من ضمير { لَكُمْ } والعامل ما فيه من معنى الاستقرار أي أيّ شيء حصل لكم غير مؤمنين على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب وهو مضمون الجملة الحالية أعني عدم الإيمان فأي لإنكار سبب الواقع ونفيه فقط، ونظيره قوله تعالى: { { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [نوح: 13] وقد يتوجه الإنكار والنفي في مثل هذا التركيب لسبب الوقوع فيسريان إلى المسبب أيضاً كما في قوله تعالى: { { وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ } [يسۤ: 22] الخ ولا يمكن إجراء ذلك هنا لتحقق عدم الإيمان وهذا المعنى مما لا غبار عليه.

وقوله تعالى: { وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ } حال من ضمير { لاَ تُؤْمِنُونَ } مفيدة على ما قيل: لتوبيخهم على الكفر مع تحقق ما يوجب عدمه بعد توبيخهم عليه مع عدم ما يوجبه. ولام { لّتُؤْمِنُواْ } صلة ـ يدعو ـ وهو يتعدى بها وبإلى، أي وأي عذر في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه، وجوّز أن تكون اللام تعليلية وقوله سبحانه: { وَقَدْ أَخَذَ مِيثَـٰقَكُمْ } حال من فاعل { يَدْعُوكُمْ } أو من مفعوله، أي وقد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان من قبل كما يشعر به تخالف الفعلين مضارعاً وماضياً، وجوز كونه حالاً معطوفة على الحال قبلها فالجملة حال بعد حال من ضمير { تُؤْمِنُونَ } والتخالف بالاسمية والفعلية يبعد ذلك في الجملة، وأياً مّا كان فأخذ الميثاق إشارة إلى ما كان منه تعالى من نصب الأدلة الآفاقية والأنفسية / والتمكين من النظر فقوله تعالى: { وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ } إشارة إلى الدليل السمعي وهذا إشارة إلى الدليل العقلي وفي التقديم والتأخير ما يؤيد القول بشرف السمعي على العقلي.

وقال البغوي: هو ما كان حين أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم بأنه سبحانه ربهم فشهدوا وعليه لا مجاز والأول اختيار الزمخشري، وتعقبه ابن المنير فقال: ((لا عليه أن يحمل العهد على حقيقته وهو المأخوذ يوم الذر وكل ما أجازه العقل وورد به الشرع وجب الإيمان به))، وروى ذلك عن مجاهد وعطاء والكلبـي ومقاتل، وضعفه الإمام بأن المراد إلزام المخاطبين الإيمان ونفي أن يكون لهم عذر في تركه وهم لا يعلمون هذا العهد إلا من جهة الرسول فقبل التصديق بالرسول لا يكون سبباً لإلزامهم الإيمان به، وقال الطيبـي: يمكن أن يقال: إن الضمير في { أَخَذَ } إن كان لله تعالى فالمناسب أن يراد بالميثاق ما دل عليه قوله تعالى: { { قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدِىَ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } [البقرة: 38] الخ لأن المعنى: فإما يأتينكم مني هدى برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم، ويدل على الأول قوله سبحانه: { وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ } وعلى الثاني { { هُوَ ٱلَّذِى يُنَزّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ ءايَـٰتٍ } [الحديد: 9] الخ، وإن كان للرسول صلى الله عليه وسلم فالظاهر أن يراد به ما في قوله تعالى: { { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـٰبٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } [آل عمران: 81] على أن يضاف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق لا الموثق عليه أي الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم، وهو الوجه لأن الخطاب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما يدل عليه ما بعد، ولعل الميثاق نحو ما روينا عن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أن نقول في الله تعالى ولا نخاف لومة لائم انتهى. ويضعف الأول بنحو ما ضعف به الإمام حمل العهد على ما كان يوم الذر، وضعف الثاني أظهر من أن ينبه عليه.

والخطاب قال صاحب «الكشف»: عام يوبخ من لم يؤمن منهم بعدم الإيمان ثم من آمن بعدم الإنفاق في سبيله. وكلام أبـي حيان ظاهر في أنه للمؤمنين، وجعل { { آمِنُواْ } [الحديد: 7] أمراً بالثبات على الإيمان ودوامه { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ } الخ على معنى كيف لا تثبتون على الإيمان ودواعي ذلك موجودة. وظاهر كلام بعضهم كونه للكفرة وهو الذي أشرنا إليه من قبل، ولعل ما ذكره صاحب «الكشف» أولى إلا أنه قيل عليه: إن { آمِنُواْ } إذا كان خطاباً للمتصفين بالإيمان ولغير المتصفين به يلزم استعمال الأمر في طلب أصل الفعل نظراً لغير المتصفين وفي طلب الثبات نظراً للمتصفين وفيه مافيه، ويحتاج في التفصي عن ذلك إلى إرادة معنى عام للأمرين، وقد يقال أراد أنه عمد إلى جماعة مختلفين في الأحوال فأمروا بأوامر شتى وخوطبوا بخطابات متعددة فتوجه كل أمر وكل خطاب إلى من يليق به وهذا كما يقول الوالي لأهل بلده: أذنوا وصلوا ودرسوا وأنفقوا على الفقراء وأوفوا الكيل والميزان إلى غير ذلك، فإن كل أمر ينصرف إلى من يليق به منهم فتأمل.

وقرىء { وما لكم لا تؤمنون بالله ورسوله }، وقرأ أبو عمرو { وقد أُخذ ميثـٰقُكم } بالبناء للمفعول ورفع { مِيثَـٰقَكُمْ }.

{ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } شرط جوابه محذوف دل عليه ما قبل، والمعنى إن كنتم مؤمنين لموجب مّا فهذا موجب لا موجب وراءه، وجوز أن يكون المراد إن كنتم ممن يؤمن فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه، وقال الواحدي: أي إن كنتم مؤمنين بدليل عقلي أو نقلي فقد بان وظهر لكم على يدي محمد صلى الله عليه وسلم ببعثته وإنزال القرآن عليه؛ وأياً مّا كان فلا تناقض بين هذا وقوله تعالى: { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ } وقال الطبري / في ذلك: المراد إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فآمِنوا الآن؛ وقيل: المراد إن كنتم مؤمنين بموسى وعيسى عليهما السلام فآمِنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فإن شريعتهما تقتضي الإيمان به عليه الصلاة والسلام أو إن كنتم مؤمنين بالميثاق المأخوذ عليكم في عالم الذر فآمِنوا الآن، وقيل: المراد إن دمتم على الإيمان فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة، والكل كما ترى. وظاهر الأخير أن الخطاب مع المؤمنين وهو الذي اختاره الطيبـي، وقال في هذا الشرط: يمكن أن يجري على التعليل كما في قوله تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ٱلرّبَٰواْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [البقرة: 278] لأن الكلام مع المؤمنين على سبيل التوبيخ والتقريع يدل عليه ما بعد.