التفاسير

< >
عرض

لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ
٢٠
-الحشر

روح المعاني

{ لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ } الذين نسوا الله تعالى فاستحقوا الخلود في النار { وَأَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ } الذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة. ولعل تقديم أصحاب النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبـىء عنه عدم الاستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصاناً وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص؛ وعليه قوله تعالى: { { هَلْ يَسْتَوِى ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى ٱلظُّلُمَـٰتُ وَٱلنُّورُ } [الرعد: 16] إلى غير ذلك. ولعل تقديم الفاضل في قوله تعالى: { { هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9] لأن صفته ملكة لصفة المفضول والأعدام مسبوقة بملكاتها. والمراد بعدم الاستواء عدم الاستواء في الأحوال الأخروية كما ينبـىء عنه التعبير عن الفريقين بصاحبية النار وصاحبية الجنة، وكذا قوله تعالى: { أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ } فإنه استئناف مبين لكيفية عدم الاستواء بينهما أي هم الفائزون في الآخرة بكل مطلوب الناجون عن كل مكروه.

والآية تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات الزائلة كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما وأن الفوز مع أصحاب الجنة فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه، وهذا كما تقول لمن عق أباه: هو أبوك تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبهه على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطف.

ومما ذكر يعلم ضعف استدلال أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه بالآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر. وانتصر لهم بأن لهم أن يقولوا: لما حث سبحانه على التقوى فعلاً وتركاً وزجر عز وجل عن الغفلة التي تضادها غاية المضادة بذكر غايتها - أعني نسيان الله تعالى ترشيحاً للتقريع - أردفه سبحانه بأن أصحاب التقوى وأصحاب هذه الغفلة لا يستوون في شيء مّا، وعبر عنهم بأصحاب الجنة وأصحاب النار زيادة تصوير وتبيين، فالمقام يقتضي التباين في حكمي الدارين وإن كان المقصود بالقصد الأول تباينهم في الدار التي هي المدار، وأنت تعلم أن بيان اقتضاء المقام ذلك في مقابلة قول أصحاب أبـي حنيفة: إن المقام يقتضي التخصيص وإلا فالشافعية يقولون: إن العموم مدلول نفي المساواة لغة لأن النفي داخل على مسمى المساواة فلا بد من انتفائها من جميع الوجوه إذ لو وجدت من وجه لما كان مسماها منتفياً هو خلاف مقتضى اللفظ، وقول الحنفية: إن الاستواء مطلقاً أعم من الاستواء من كل وجه ومن وجه دون وجه، والنفي إنما دخل على الاستواء الأعم فلا يكون مشعراً بأحد القسمين الخاصين. وحاصله أن الأعم لا يشعر بالأخص فيه إن ذلك في الإثبات مسلم وفي النفي ممنوع، ألا ترى أن من قال: ما رأيت حيواناً وكان قد رأى إنساناً مثلاً عد كاذباً؟ وتمام ذلك في كتب الأصول، والإنصاف أن كون المراد هنا نفي الاستواء في الأمور الأخروية ظاهر جداً فلا ينبغي الاستدلال بها على ما ذكر.