التفاسير

< >
عرض

مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٧
-الحشر

روح المعاني

{ مَّا أَفَاء ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } بيان لحكم ما أفاءه الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من قرى الكفار على العموم بعد بيان حكم ما أفاءه من بني النضير كما رواه القاضي أبو يوسف في كتاب «الخراج» عن محمد بن إسحٰق الزهري عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ويشعر به كلامه رضي الله تعالى عنه في حديث طويل - فيه مرافعة علي كرم الله تعالى وجهه والعباس في أمر فدك - أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، فالجملة جواب سؤال مقدر ناشىء مما فهم من الكلام السابق فكأن قائلاً يقول: قد علمنا حكم ما أفاء الله تعالى من بني النضير فما حكم ما أفاء عز وجل من غيرهم؟ فقيل: { مَّا أَفَاء ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } الخ، ولذا لم يعطف على ما تقدم، ولم يذكر في الآية قيد الإيجاف ولا عدمه. والذي يفهم من كتب بعض الشافعية أن ما تضمنته حكم / الفيء لا الغنيمة ولا الأعم، وفرقوا بينهما قالوا: ((الفيء مال حصل من الكفار بلا قتال وإيجاف خيل وركاب كجزية وعشر تجارة، وما صولحوا عليه من غير نحو قتال وما جلوا عنه خوفاً قبل تقابل الجيشين أما بعده فغنيمة، ومال مرتد قتل أو مات على ردته، وذمي أو معاهد أو مستأمن مات بلا وارث مستغرق، والغنيمة مال حصل من كفار أصليين حربيين بقتال - وفي حكمه تقابل الجيشين - أو إيجاف منا لا من ذميين فإنه لهم ولا يخمس)) وحكمها مشهور.

وصرح غير واحد من أصحابنا بالفرق أيضاً نقلاً عن «المغرب» وغيره فقالوا: الغنيمة ما نيل من الكفار عنوة والحرب قائمة وحكمها أن تخمس، وباقيها للغانمين خاصة، والفيء ما نيل منهم بعد وضع الحرب أوزارها وصيرورة الدار دار إسلام، وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس أي يصرف جميعه لمصالحهم؛ وَنَقَلَ هذا الحكم ابنُ حجر عمن عدا الشافعي رضي الله تعالى عنه من الأئمة الثلاثة، والتخميس عنه استدلالاً بالقياس على الغنيمة المخمسة بالنص بجامع أن كلاً راجع إلينا من الكفار، واختلاف السبب بالقتال وعدمه لا يؤثر، والذي نطقت به الأخبار الصحيحة أن عمر رضي الله تعالى عنه صنع في سواد العراق ما تضمنته الآية، واعتبرها عامة للمسلمين محتجاً بها على الزبير وبلال وسلمان الفارسي وغيرهم حيث طلبوا منه قسمته على الغانمين بعقاره وعلوجه، ووافقه على ما أراد علي وعثمان وطلحة والأكثرون بل المخالفون أيضاً بعد أن قال خاطباً: اللهم اكفني بلالاً وأصحابه مع أن المشهور في كتب المغازي أن السواد فتح عنوة، وهو يقتضي كونه غنيمة فيقسم بين الغانمين، ولذا قال بعض الشافعية: إن عمر رضي الله تعالى عنه استطاب قلوب الغانمين حتى تركوا حقهم فاسترد السواد على أهله بخراج يؤدونه في كل سنة فليراجع وليحقق.

وما جعله الله تعالى من ذلك لمن تضمنه قوله تعالى: { فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } إلى { ٱبْنُ ٱلسَّبِيلِ } هو خمس الفيء على ما نص عليه بعض الشافعية، ويقسم هذا الخمس خمسة أسهم، لمن ذكر الله عز وجل وسهمه سبحانه وسهم رسوله واحد، وذكره تعالى ـ كما روي عن ابن عباس والحسن بن محمد بن الحنفية ـ افتتاح كلام للتيمن والتبرك فإن لله ما في السماوات وما في الأرض، وفيه تعظيم لشأن الرسول عليه الصلاة والسلام. وقال أبو العالية: سهم الله تعالى ثابت يصرف إلى بناء بيته وهو الكعبة المشرفة إن كانت قريبة وإلا فإلى مسجد كل بلدة ثبت فيها الخمس، ويلزمه أن السهام كانت ستة وهو خلاف المعروف عن السلف في تفسير ذلك.

وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم قد كان له في حياته بالإجماع ـ وهو خمس الخمس ـ وكان ينفق منه على نفسه وعياله ويدخر منه مؤنة سنة أي لبعض زوجاته - ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وسقط عندنا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام قالوا: لأن عمل الخلفاء الراشدين على ذلك ـ وهم أمناء الله تعالى على دينه ـ ولأن الحكم معلق بوصف مشتق ـ وهو الرسول ـ فيكون مبدأ الاشتقاق ـ وهو الرسالة ـ علة ولم توجد في أحد بعده، وهذا كما سقط الصفي. ونقل عن الشافعي أنه يصرف للخليفة بعده لأنه عليه الصلاة والسلام كان يستحقه لإمامته دون رسالته ليكون ذلك أبعد عن توهم الأجر على الإبلاغ. والأكثرون من الشافعية أن ما كان له صلى الله عليه وسلم من خمس الخمس يصرف لمصالح المسلمين كالثغور، وقضاة البلاد والعلماء المشتغلين بعلوم الشرع وآلاتها ولو مبتدئين، والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء، وسائر من يشتغل عن نحو كسبه بمصالح المسلمين لعموم نفعهم، وألحق بهم العاجزون عن الكسب والعطاء إلى رأي الإمام معتبراً سعة المال وضيقه، ويقدم الأهم فالأهم وجوباً، / وأهمها سد الثغور، ورد سهمه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته للمسلمين الدال عليه قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر الصحيح: "مالي مما أفاء الله تعالى عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم" صادق بصرفه لمصالح المسلمين كما أنه صادق بضمه إلى السهام الباقية فيقسم معها على سائر الأصناف، ولا يسلم ظهوره في هذا دون ذاك.

وسهم لذي القربـى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل فهذه خمسة أسهم الخمس. والمراد بذي القربـى قرابته صلى الله عليه وسلم، والمراد بهم بنو هاشم وبنو المطلب لأنه صلى الله عليه وسلم وضع السهم فيهم دون بني أخيهما شقيقهما عبد شمس، ومن ذريته عثمان وأخيهما لأبيهما نوفل مجيباً عن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه" رواه البخاري أي لم يفارقوا بني هاشم في نصرته صلى الله عليه وسلم جاهلية ولا إسلاماً، وكأنه لمزيد تعصبهم وتواقفهم ـ حتى كأنهم على قلب رجل واحد ـ قيل: لذي القربـى دون لذوي بالجمع.

قال الشافعية: يشترك في هذا السهم الغني والفقير لإطلاق الآية ولإعطائه صلى الله عليه وسلم العباس وكان غنياً، بل قيل: كان له عشرون عبداً يتجرون له، والنساء لأن فاطمة وصفية عمة أبيها رضي الله تعالى عنهما كانا يأخذان منه، ويفضل الذكر كالإرث بجامع أنه استحقاق بقرابة الأب فله مثل حظي الأنثى، ويستوي فيه العالم والصغير وضدهما، ولو أعرضوا عنه لم يسقط كالإرث، ويثبت كون الرجل هاشمياً أو مطلبياً بالبينة، وذكر جمع أنه لا بد معها من الاستفاضة، وبقول الشافعي قال أحمد، وعند مالك الأمر مفوض إلى الإمام إن شاء قسم بينهم وإن شاء أعطى بعضهم دون بعض وإن شاء أعطى غيرهم إن كان أمره أهم من أمرهم.

وقال المزني والثوري: يستوي الذكر والأنثى ويدفع للقاصي والداني ممن له قرابة، والغني والفقير سواء لإطلاق النص، ولأن الحكم المعلق بوصف مشتق معلل بمبدأ الاشتقاق، وعندنا ذو القربـى مخصوص ببني هاشم وبني المطلب للحديث إلا أنهم ليس لهم سهم مستقل ولا يعطون مطلقاً، وإنما يعطى مسكينهم ويتيمهم وابن سبيلهم لاندراجه في اليتامى والمساكين وابن السبيل لكن يقدمون على غيرهم من هذه الأصناف لأن الخلفاء الثلاثة لم يخرجوا لهم سهماً مخصوصاً، وإنما قسموا الخمس ثلاثة أسهم: سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل، وعلي كرم الله تعالى وجهه في خلافته لم يخالفهم في ذلك مع مخالفته لهم في مسائل، ويحمل على الرجوع إلى رأيهم إن صح عنه أنه كان يقول: سهم ذوي القربـى على ما حكي عن الشافعي، وفائدة ذكرهم على القول بأن استحقاقهم لوصف آخر غير القرابة كالفقر دفع توهم أن الفقير منهم مثلاً لا يستحق شيئاً لأنه من قبيل الصدقة ولا تحل لهم، ومن تتبع الأخبار وجد فيها اختلافاً كثيراً؛ ومنها ما يدل على أن الخلفاء كانوا يسهمونهم مطلقاً، وهو رأي علماء أهل البيت. واختار بعض أصحابنا أن المذكور في الآية مصارف الخمس على معنى أن كلاً يجوز أن يصرف له لا المستحقين فيجوز الاقتصار عندنا على صنف واحد كأن يعطى تمام الخمس لابن السبيل وحده مثلاً. والكلام مستوفى في «شروح الهداية».

والمراد باليتامى الفقراء منهم، قال الشافعية: اليتيم هو صغير لا أب له وإن كان له جد، ويشترط إسلامه وفقره أو مسكنته، على المشهور أن لفظ اليتم يشعر بالحاجة. وفائدة ذكرهم مع شمول المساكين لهم عدم حرمانهم - لتوهم أنهم لا يصلحون للجهاد - وإفرادهم بخمس كامل، ويدخل فيهم ولد الزنا، والمنفي لا اللقيط على الأوجه لأنا لم نتحقق فقد أبيه، على أنه غني بنفقته في بيت المال، ولا بد في ثبوت اليتيم / والإسلام والفقر هنا من البينة، ويكفي في المسكين وابن السبيل قولهما ولو بلا يمين، وإن اتهما، نعم يظهر في مدعي تلف مال له عرف أو عيال أنه يكلف بينة انتهى. واشتراط الفقر في اليتيم مصرح به عندنا في أكثر الكتب وليراجع الباقي.

هذا والأربعة الأخماس الباقية مصرفها على ما قال صاحب «الكشف» ـ وهو شافعي ـ بعد أن اختار جعل { لِلْفُقَرَاء } بدلاً من { ذي ٱلْقُرْبَىٰ } وما عطف عليه من تضمنه قوله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ تَبَؤوا } [الحشر: 9] إلى قوله سبحانه: { { وَٱلَّذِينَ جَاءوا مّن بَعْدِهِمْ } [الحشر: 10] على معنى أن له عليه الصلاة والسلام أن يعم الناس بها حسب اختياره، وقال: إنها للمقاتلين الآن على الأصح، وفي «تحفة ابن حجر» أنها على الأظهر للمرتزقة وقضاتهم وأئمتهم ومؤذنيهم وعمالهم ما لم يوجد متبرع، والمرتزقة الأجناد المرصودون في الديوان للجهاد لحصول النصرة بهم بعده صلى الله عليه وسلم. وصرح في «التحفة» ((بأن الأكثرين على أن هذه الأخماس الأربعة كانت له عليه الصلاة والسلام مع خمس الخمس، فجملة ما كان يأخذه صلى الله عليه وسلم من الفيء أحد وعشرون سهماً من خمسة وعشرين، وكان على ما قال الروياني: يصرف العشرين التي له عليه الصلاة والسلام يعني الأربعة الأخماس للمصالح وجوباً في قول وندباً في آخر، وقال الغزالي: كان الفيء كله له صلى الله عليه وسلم في حياته، وإنما خمس بعد وفاته. وقال الماوردي: كان له صلى الله عليه وسلم في أول حياته ثم نسخ في آخرها)).

وقال الزمخشري: ((إن قوله تعالى: { مَّا أَفَاء ٱللَّهُ } الخ بيان للجملة الأولى يعني قوله تعالى: { { وَمَا أَفَاء ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ } [الحشر: 6] ولذا لم يدخل العاطف عليها بين فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله تعالى عليه وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوماً على الأقسام الخمسة))، وظاهره أن الجملة استئناف بياني، والسؤال عن مصارف ما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من بني النضير الذي أفادت الجملة الأولى أن أمره مفوض إليه صلى الله عليه وسلم لا يلزم أن يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها قتالاً معتداً به، وأخذت عنوة وقهراً كما طلب الغزاة لتكون أربعة أخماسها لهم وأن ما يوضع موضع الخمس من الغنائم هو الكل لا أن خمسه كذلك والباقي ـ وهو أربعة أخماسه ـ لمن تضمنه قوله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ تَبَؤوا } [الحشر: 9] إلى قوله سبحانه: { { وَٱلَّذِينَ جَاؤا مّن بَعْدِهِمْ } [الحشر: 10] على ما سمعت سابقاً، وأن المراد بأهل القرى هو المراد بالضمير في { { مِنْهُمْ } [الحشر: 6] أعني بني النضير. وعدل عن الضمير إلى ذلك ـ على ما في «الإرشاد» ـ إشعاراً بشمول ما في { مَّا أَفَاء ٱللَّهُ } لعقاراتهم أيضاً. واعترض صاحب «الكشف» ما يشعر به الظاهر من أن الآية دالة على أمره صلى الله عليه وسلم بأن يضع الجميع حيث يضع الخمس من الغنائم، ووجه الآية بما أيد به مذهبه، ودقق الكلام في ذلك فليراجع وليتدبر.

وقال ابن عطية { أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ } المذكورون في الآية هم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عرينة، وحكمها مخالف لحكم أموال بني النضير فإن تلك كلها له صلى الله عليه وسلم خاصة، وهذه قسمها كغيرها. وقيل: المراد بما أفاء الله على رسوله خيبر، وكان نصفها لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ونصفها الآخر للمسلمين فكان الذي لله سبحانه ورسوله عليه الصلاة والسلام من ذلك الكتيبة والوطيح وسلالم ووخدة، وكان الذي للمسلمين الشق، وكان ثلاثة عشر سهماً ونطاة وكانت خمسة أسهم، ولم يقسم عليه الصلاة والسلام من خيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية، ولم يأذن صلى الله عليه وسلم لأحد تخلف عنه عند مخرجه إلى الحديبية أن يشهد معه خيبر إلا جابر بن عبد الله / ابن عمرو الأنصاري، وروي هذا عن ابن عباس، وخص بعضهم ما أفاء الله تعالى بالجزية والخراج. وعن الزهري أنه قال: بلغني أنه ذلك، وأنت قد سمعت أن عمر رضي الله تعالى عنه إنما احتج بهذه الآية على إبقاء سواد العراق بأيادي أهله، وضرب الخراج والجزية عليهم رداً على من طلب قسمته على الغزاة بعلوجه لكن ليس ذلك إلا لأن وصول نفع ما أفاء الله تعالى إلى عامة المسلمين كان بما ذكر دون القسمة فافهم.

وفي إعادة اللام في الرسول وذي القربى مع العاطف ما لا يخفى من الاعتناء. وفيه على ما قيل: تأييد ما لمن يذهب إلى عدم سقوط سهميهما. ووجه إفراد ذي القربى قد ذكرناه غير بعيد - ولما كان أبناء السبيل بمنزلة الأقارب قيل: { وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } بالإفراد كما قيل: { وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ } وعلى ذلك قوله:

أيا جارتا إنا غريبان هٰهنا وكل غريب للغريب نسيب

{ كَى لاَ يَكُونَ } تعليل للتقسيم. وضمير { يَكُونَ } لما أفاء الله تعالى أي كي لا يكون الفيء { دُولَةً } هي بالضم، وكذا بالفتح ما يدول أي ما يدور للإنسان من الغناء والجد والغلبة، وقال الكسائي وحذاق البصرة: ـ الدَّوْلة ـ بالفتح في المُلك بالضم، و ـ الدُّولة ـ بالضم في المِلك بالكسر، أو بالضم في المال وبالفتح في النصرة قيل: وفي الجاه، وقيل: هي بالضم ما يتداول كالغرفة اسم ما يغترف، وبالفتح مصدر بمعنى التداول، والراغب وعيسى بن عمر وكثير أنهما بمعنى واحد. وجمهور القراء قرأوا بضم الدال والنصب، وبالياء التحتية في { يَكُونَ } على أن اسم { يَكُونَ } الضمير، و { دُولَةً } الخبر أي كي لا يكون الفيء جدّاً { بَيْنَ ٱلأَغْنِيَاء مِنكُمْ } أي بينهم خاصة يتكاثرون به، أو كي لا يكون دولة وغلبة جاهلية بينكم فإن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة ويقولون من عَزَّ بَزَّ، وقيل: المعنى كي لا يكون شيئاً يتداوله الأغنياء خاصة بينهم ويتعاورونه فلا يصيب أحداً من الفقراء.

وقرأ عبد الله ـ تكون ـ بالتاء الفوقية على أن الضمير على (ما) باعتبار المعنى إذ المراد بها الأموال، وقرأ أبو جعفر وهشام كذلك؛ ورفع { دولةً } بضم الدال على أن كان تامة، و { دولةً } فاعل أي كي لا يقع دولة، وقرأ علي والسلمي كذلك أيضاً، ونصب { دولةً } بفتح الدال على أن كان ناقصاً اسمها ما سمعت، و { دولة } خبرها، ويقدر مضاف على القول بأنها مصدر إن لم يتجوز فيه، ولم يقصد المبالغة أي كي لا تكون ذات تداول بين الأغنياء لا يخرجونها إلى الفقراء.

وظاهر التعليل بما ذكر اعتبار الفقر فيمن ذكر وعدم اتصافه تعالى به ضروري مع أن ذكره سبحانه كان للتيمن عند الأكثرين لا لأن له عز وجل سهماً، وكذا يجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يسمى فقيراً، وما اشتهر من قوله عليه الصلاة والسلام: "الفقر فخري" لا أصل له، وكيف يتوهم مثله والدنيا كلها لا تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة، وهو صلى الله عليه وسلم أحب خلقه إليه سبحانه حتى قال بعض العارفين: لا يقال له صلى الله عليه وسلم زاهد لأنه التارك للدنيا وهو عليه الصلاة والسلام لا يتوجه إليها فضلاً عن طلبها اللازم للترك، وقيل: إن الخبر لو صح يكون المراد بالفقر فيه الانقطاع عن السوى بالمرة إلى الله عز وجل وهو غير الفقر الذي الكلام فيه واعتبارُه فيمن بعد لا محذور فيه حتى أنه ربما يكون دليلاً على القول بأنه لا يعطى أغنياء ذوي القربـى، وإنما يعطى فقراؤهم، وإذا حمل الكلام على ما حملناه عليه كفى في التعليل أن يكون فيمن يدفع إليه شيء من الفيء فقر، ولا يلزم أن كل من يدفع إليه / شيء منه فقيراً.

{ وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ } أي ما أعطاكم من الفيء { فَخُذُوهُ } لأنه حقكم الذي أحله الله تعالى لكم { وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ } أي عن أخذه منه { فَٱنتَهُواْ } عنه { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في مخالفته عليه الصلاة والسلام { إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } فيعاقب من يخالفه صلى الله عليه وسلم. وحمل الآية على خصوص الفيء مروي عن الحسن وكان لذلك لقرينة المقام. وفي «الكشاف» ((الأجود أن تكون عامة في كل ما أمر به صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، وأمر الفيء داخل في العموم))، وذلك لعموم لفظ { مَا } على أن الواو لا تصح عاطفة فهي اعتراض على سبيل التذييل، ولذلك عقب بقوله تعالى: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } تعميماً على تعميم فيتناول كل ما يجب أن يتقى؛ ويدخل ما سيق له الكلام دخولاً أولياً كدخوله في العموم الأول، وروي ذلك عن ابن جريج.

وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي وغيرهم عن ابن مسعود أنه قال: "لعن الله تعالى الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى" فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل، فقالت: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، قال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت قوله تعالى: { وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ }؟ قالت: بلى، قال: فإنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه.

وعن الشافعي أنه قال: سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن محمد بن هٰرون: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: قال الله تعالى: { وَأَمَّا ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ }. وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبـي بكر وعمر" . وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل الزنبور. وهذا من غريب الاستدلال، وفيه على علاته ـ ككلام ابن مسعود ـ حمل ما في الآية على العموم، وعن ابن عباس ما يدل على ذلك أيضاً، قيل: والمعنى حينئذ ما آتاكم الرسول من الأمر فتمسكوا به وما نهاكم عن تعاطيه فانتهوا عنه. والأمر جوز أن يكون واحد الأمور وأن يكون واحد الأوامر لمقابلة { نَهَـٰكُمْ } له، قيل: والأول أقرب لأنه لا يقال: أعطاه الأمر بمعنى أمره إلا بتكلف كما لا يخفى.

واستنبط من الآية أن وجوب الترك يتوقف على تحقق النهي ولا يكفي فيه عدم الأمر فما لم يتعرض له أمراً ولا نهياً لا يجب تركه.