التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
١٠٥
-الأنعام

روح المعاني

{ وَكَذٰلِكَ } أي مثل ذلك التصريف البديع { نُصَرّفُ ٱلآيَـٰتِ } الدالة على المعاني الرائقة الكاشفة عن الحقائق الفائقة لا تصريفاً أدنى منه. وقيل: المراد كما صرفنا الآيات قبل نصرف هذه الآيات، وقد تقدم لك ما هو الحري بالقبول. وأصل التصريف ـ كما قال علي بن عيسى ـ إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة من الصرف وهو نقل الشيء من حال إلى حال. وقال الراغب: «التصريف كالصرف إلا في التكثير وأكثر ما يقال في صرف الشيء من حال إلى حال وأمر إلى أمر».

{ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ } علة لفعل قد حذف تعويلاً على دلالة السباق عليه أي وليقولوا درست نفعل ما نفعل من التصريف المذكور. وبعضهم قدر الفعل ماضياً والأمر في ذلك سهل، واللام لام العاقبة. وجوز أن تكون للتعليل على الحقيقة لأن نزول الآيات لإضلال الأشقاء وهداية السعداء قال تعالى: { { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } [البقرة: 26]. والواو اعتراضية، وقيل: هي عاطفة على علة محذوفة. واللام متعلقة بنصرف أي مثل ذلك التصريف نصرف الآيات لنلزمهم الحجة وليقولوا الخ. وهو أولى من تقدير لينكروا وليقولوا الخ. وقيل: اللام لام الأمر، وينصره القراءة بسكون اللام كأنه قيل: وكذلك نصرف الآيات وليقولوا هم ما يقولون فإنهم لا احتفال بهم ولا اعتداد بقولهم، وهو أمر معناه الوعيد والتهديد وعدم الاكتراث. ورده في «الدر المصون» بأن ما بعده يأباه فإن اللام فيه نص في أنها لام كي، وتسكين اللام في القراءة الشاذة لا دليل فيه لاحتمال أن يكون للتخفيف.

ومعنى { دَرَسْتَ } قرأت وتعلمت، وأصله ـ على ما قال الأصمعي ـ من قولهم: درس الطعام يدرسه دراساً إذا داسه كأن التالي يدوس الكلام فيخف على لسانه. وقال أبو الهيثم: يقال درست الكتاب أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه من قولهم: درست الثوب أدرسه درساً فهو مدروس ودريس أي أخلقته، ومنه قيل للثوب الخلق: دريس لأنه قد لان، والدرسة الرياضة ومنه درست السورة حتى حفظتها. وهذا كما قال الواحدي قريب مما قاله الأصمعي أو هو نفسه لأن المعنى يعود فيه إلى التذليل والتليين. وقال الراغب: «يقال دَرَسَ الدارُ أي بقي (أثره) وبقاء الأثر يقتضي انمحاءه في نفسه فلذلك فسر الدروس بالانمحاء، وكذا درس الكتاب ودرست العلم تناولت أثره بالحفظ، ولما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن إدامة القراءة بالدرس» وهو بعيد عما تقدم كما لا يخفى.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { دارست } بالألف وفتح التاء وهي قراءة ابن عباس ومجاهد أي دارست يا محمد غيرك ممن يعلم الأخبار الماضية وذكرته، وأرادوا بذلك نحو ما أرادوه بقولهم: { { إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ } [النحل: 103]. قال الإمام: «ويقوي هذه القراءة قوله تعالى حكاية عنهم: { { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } [الفرقان: 4] وقرأ ابن عامر ويعقوب وسهل { درست } بفتح السين وسكون التاء، ورويت عن عبد الله بن الزبير وأبـي وابن مسعود والحسن رضي الله تعالى عنهم. والمعنى قدمت هذه الآيات وعفت وهو كقولهم { { أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [النحل: 24]. وقرىء { درست } بضم الراء مبالغة في / درست لأن فعل المضموم للطبائع والغرائز أي اشتد دروسها، و { درست } على البناء للمفعول بمعنى قرئت أو عفيت وقد صح مجيء عفا متعدياً كمجيئه لازماً؛ و { دارست } بتاء التأنيث أيضاً، والضمير إما لليهود لاشتهارهم بالدارسة أي دارست اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم وإما للآيات وهو في الحقيقة لأهلها أي دارست أهل الآيات وحملتها محمداً عليه الصلاة والسلام وهم أهل الكتاب، و { دورست } على مجهول فاعل. و { درست } بالبناء للمفعول والإسناد إلى تاء الخطاب مع التشديد، ونسبت إلى ابن زيد. و { ادارست } مشدداً معلوماً ونسبت إلى ابن عباس، وفي رواية أخرى عن أبـي { درس } على إسناده إلى ضمير النبـي صلى الله عليه وسلم أو الكتاب إن كان بمعنى انمحى ونحوه و { درسن } بنون الإناث مخففاً ومشدداً و { دارسات } بمعنى قديمات أو ذات درس أو دروس كـ { { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [القارعة: 7]. وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي دراسات.

{ وَلِنُبَيّنَهُ } عطف على { لّيَقُولواْ } واللام فيه للتعليل المفسر ببيان ما يدل على المصلحة المترتبة على الفعل عند الكثير من أهل السنة. ولا ريب في أن التبيين مصلحة مرتبة على التصريف. والخلاف في أن أفعال الله تعالى هل تعلل بالأغراض مشهور وقد أشرنا إليه فيما تقدم. والضمير للآيات باعتبار التأويل بالكتاب أو للقرآن وإن لم يذكر لكونه معلوماً أو لمصدر { نُصَرّفُ } كما قيل أو نبين أي ولنفعلن التبيين { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } فإنهم المنتفعون به وهو الوجه في تخصيصهم بالذكر. وهم ـ على ما روي عن ابن عباس ـ أولياؤه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد ووصفهم بالعلم للإيذان بغاية جهل غيرهم وخلوهم عن العلم بالمرة.