التفاسير

< >
عرض

وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١١٠
-الأنعام

روح المعاني

{ وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـٰرَهُمْ } عطف على { { لاَ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام: 109] داخل معه في حكم { { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } [الأنعام: 109] مقيد بما قيد به أي وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا (يدركونه) وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه. وهذا على ما قال الإمام تقرير لما في الآية الأولى من أنهم لا يؤمنون. وذكر شيخ الإسلام أن هذا التقليب ليس مع توجه الأفئدة والأبصار إلى الحق واستعدادها له بل لكمال نبوها عنه وإعراضها بالكلية ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعاراً بأصالتهم في الكفر وحسماً لتوهم أن عدم إيمانهم ناشيء من تقليبه تعالى مشاعرهم بطريق الإجبار. وتحقيقه على ما ذكره شيخ مشايخنا الكوراني أنه سبحانه حيث علم في الأزل سوء استعدادهم المخبوء في ماهياتهم أفاض عليهم ما يقتضيه وفعل بهم ما سألوه بلسان الاستعداد بعد أن رغبهم ورهبهم وأقام الحجة وأوضح المحجة ولله تعالى الحجة البالغة وما ظلمهم الله سبحانه ولكن كانوا هم الظالمين.

{ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ } أي بما جاء من الآيات بالله تعالى. وقيل: بالقرآن. وقيل: بمحمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر لذلك ذكر. وقيل: بالتقليب وهو كما ترى. { أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي عند ورود الآيات السابقة. والكاف في موضع النعت لمصدر [محذوف] منصوب بِـ { { لاَ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام: 109]. وما مصدرية أي لا يؤمنون بل يكفرون كفراً كائناً ككفرهم أول مرة. وتوسيط تقليب الأفئدة والأبصار لأنه من متممات عدم إيمانهم. وقال أبو البقاء: أن الكاف نعت لمصدر محذوف أي تقليباً ككفرهم أي عقوبة مساوية لمعصيتهم أول مرة ولا يخفى ما فيه. والآية ظاهرة في أن الإيمان والكفر بقضاء الله تعالى وقدره.

وأجاب الكعبـي عنها بأن المراد من { وَنُقَلّبُ } الخ أنا لا نفعل بهم ما نفعله بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم. والقاضي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الآيات التي ظهرت فلا نجدهم يؤمنون بها آخراً كما لم يؤمنوا بها أولاً. والجبائي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم على لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا. والكل كسراب بقيعة / يحسبه الظمآن ماء، وهكذا غالب كلام المعتزلة.

{ وَنَذَرُهُمْ } أي ندعهم { فِي طُغْيَـٰنِهِمْ } أي تجاوزهم الحد في العصيان { يَعْمَهُونَ } أي يترددون متحيرين وهذا عطف على { { لاَ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام: 109] مقيد بما قيد به أيضاً مبين لما هو المراد بتقليب الأفئدة والأبصار معرب عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره. والجار متعلق بما عنده. وجملة { يَعْمَهُونَ } في موضع الحال من الضمير المنصوب في { نَذَرُهُمْ }. وقرىء (يقلب ويذر) على الغيبة والضمير لله عز وجل. وقرأ الأعمش { وتقلب } على البناء للمفعول وإسناده إلى أفئدتهم.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات: { { وَٱجْتَبَيْنَـٰهُمْ وَهَدَيْنَـٰهُمْ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الأنعام: 87] قال الجنيد قدس سره: أي أخلصانهم وآويناهم لحضرتنا ودللناهم للاكتفاء بنا عما سوانا { ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } وهم أهل السابقة الذين سألوه سبحانه الهداية بلسان الاستعداد الأزلي { وَلَوْ أَشْرَكُواْ } بالميل إلى السوى وهو شرك الكاملين كما أشار إليه سيدي عمر بن الفارض قدس سره بقوله:

ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهواً حكمت بردتي

{ { لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [الأنعام: 88] لعظم ما أتوا به { { إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13] { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء } وهو المحجوبون { { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَـٰفِرِينَ } [الأنعام: 89] وهم العارفون بالله عز وجل الذين هم خزائن حقائق الإيمان. وفي الخبر "لا يزال طائفة من أمتي قائمين بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله سبحانه وهم على ذلك" { أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ } وهو آداب الشريعة والطريقة والحقيقة { { ٱقْتَدِهْ } [الأنعام: 90] أمر له صلى الله عليه وسلم أن يتصف بجميع ما تفرق فيهم من ذلك الهدى وكان ذلك على ما قيل في منازل الوسائط، ولما كحل عيون أسراره بكحل الربوبية جعله مستقلاً بذاته مستقيماً بحاله وأخرجه من حد الإرادة إلى حد المعرفة والاستقامة ولذا أمره عليه الصلاة والسلام بإسقاط الوسائط كما يشير إليه قوله سبحانه: { { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى } [الأعراف: 203] مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي" . وقال بعض العارفين: ليس في هذا توسيط الوسائط لأنه أمر بالاقتداء بهداهم لا بهم. ونظيره { { أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرٰهِيمَ } [النحل: 123] حيث لم يقل سبحانه أن أتبع إبراهيم { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أي ما عرفوه حق معرفته { { إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مّن شَيْءٍ } [الأنعام: 91] أي لم يظهر من علمه وكلامه سبحانه على أحد شيئاً وذلك لزعمهم البعد من عباده جل شأنه وعدم إمكان ظهور بعض صفاته على مظهر بشري ولو عرفوا لما أنكروا ولا اعتقدوا أنه لا مظهر لكمال علمه وحكمته إلا الإنسان الكامل بل لو ارتفع الحول عن العين لما رأوا الواحد إثنين { وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ } لما فيه من أسرار القرب والوصال والتشويق إلى الحسن والجمال بل منه تجلى الحق لخلقه لو يعلمون. { مُّصَدّقُ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } من التوراة والإنجيل لجمعه الظاهر والباطن على أتم وجه { وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ } وهي القلب { { وَمَنْ حَوْلَهَا } [الأنعام: 92] من القوى { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } كمن ادعى الكمال والوصول إلى التوحيد والخلاص عن كثرة صفات النفس وزعم أنه بالله عز وجل وأنه من أهل الإرشاد وهو ليس كذلك { أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٍ } كمن سمى مفتريات وهمه وخياله ومخترعات عقله وفكره وحيا وفيضاً من الروح القدسي فتنبأ لذلك { وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ ٱللَّهُ } كمن تفرعن وادعى الألوهية { وَلَوْ تَرَى إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ } وهم هؤلاء الأصناف الثلاثة { فِى غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ } الطبيعي { وَٱلْمَلَـئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ } بقبض أرواحهم / كالمتقاضي الملظ يقولون { أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ } تغليظاً وتعنيفاً عليهم { { ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ } [الأنعام: 93] والصغار لوجود صفات نفوسكم وهيآتها المظلمة وتكاثف حجاب أنانيتكم وتفرعنكم { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ } أي منفردين مجردين عن كل شيء بالاستغراق في عين جميع الذات { { كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام: 94] عند أخذ الميثاق. { إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ } أي حبة القلب بنور الروح عن العلوم والمعارف { وَٱلنَّوَىٰ } أي نوى النفس بنور القلب عن الأخلاق والمكارم أو فالق حبة المحبة الأزلية في قلوب المحبين والصديقين ونوى شجر أنوار الأزل في فؤاد العارفين فتثمر بالأعمال الزكية والمقامات الشريفة والحالات الرفيعة { يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ } أي العالم به من الجاهل { { وَمُخْرِجُ ٱلْمَيِّتِ مِنَ ٱلْحَيِّ } [الأنعام: 95] أي الجاهل به من العالم أو يخرج حي القلب عن ميت النفس تارة باستيلاء نور الروح عليها ومخرج ميت النفس عن حي القلب أخرى بإقباله عليها واستيلاء الهوى وصفات النفس عليه { فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ } أي مظهر أنوار صفاته على صفحات آفاق مخلوقاته أو شاق ظلمة الإصباح بنور الإصباح وذلك لأن بحر العدم كان مملوءاً من الظلمة فشقه بأن أجرى فيه جدولاً من نوره حتى بلغ السيل الزبى وقال الإمام «فالق ظلمة العدم بصباح التكوين والإيجاد وفالق ظلمة الجمادية بصباح الحياة والعقل والرشاد وفالق ظلمة الجهالة بصباح [العقل و] الإدراك وفالق ظلمة العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى صبحة عالم الأفلاك وفالق ظلمة الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات»، وقال بعض العارفين المعنى فالق ظلمة صفات النفس عن القلب بإصباح نور شمس الروح وإشراقه عليها { وَجَعَلَ ٱلَّيْلَ } أي ليل الحيرة في الذات البحت { سَكَناً } تسكن إليه أرواح العاشقين كما قال قائلهم:

زدني بفرط الحب فيك تحيراً وارحم حشا بلظى هواك تسعرا

أو جاعل ظلمة النفس سكن القلب يسكن إليها أحياناً للارتفاق والاسترواح أو سكنا تسكن فيه القوى البدنية وتستقر عن الاضطراب كما قيل { وَٱلشَّمْسَ } أي شمس تجلي الصفات { وَٱلْقَمَرَ } أي قمر تجلي الأفعال { { حُسْبَاناً } [الأنعام: 96] أي علمي حساب الأحوال حيث يعتبر بهما أو شمس الروح وقمر القلب محسوبين في عداد الموجودات الباقية الشريفة معتداً بهما. أو علمي حساب الأوقات والأحوال { وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ } أي المرشدين أو نجوم الحواس { لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرّ } وهو علم الآداب { { وَٱلْبَحْرِ } [الأنعام: 97] وهو علم الحقائق أو المعنى لتهتدوا بها في ظلمات بر الأجساد إلى مصالح المعاش وبحر العلوم باكتسابها بها { وَهُوَ ٱلَّذِى أَنشَأَكُم } أي أظهركم { مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ } وهي النفس الكلية { فَمُسْتَقَرٌّ } في أرض البدن حال الظهور { { وَمُسْتَوْدَعٌ } [الأنعام: 98] في عين جمع الذات { وَهُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاءً } أي من سماء الروح ماء العلم { فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ } أي كل صنف من الأخلاق والفضائل { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ } أي النبات { خُضْرًا } زينة النفس وبهجة لها { نُّخْرِجُ مِنْهُ } أي الخضر { حَبّاً مُّتَرَاكِباً } أي أعمالاً مترتبة شريفة ونيات صادقة يتقوى القلب بها { وَمِنَ ٱلنَّخْلِ } أي نخل العقل { مِن طَلْعِهَا } أي من ظهور تعلقها { قِنْوٰنٌ } معارف وحقائق { دَانِيَةٌ } قريبة التناول لظهورها بنور الروح كأنها بديهية { وَجَنَّـٰتٍ مّنْ أَعْنَـٰبٍ } وهي أعناب الأحوال والأذواق ومنها تعتصر سلافة المحبة

وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ترى الدهر عبداً طائعاً ولك الحكم

{ وَٱلزَّيْتُونَ } أي زيتون التفكر { وَٱلرُّمَّانَ } أي رمان الهمم الشريفة والعزائم النفيسة { مُشْتَبِهاً } كما في أفراد نوع واحد { وَغَيْرَ مُتَشَـٰبِهٍ } كنوعين وفردين منهما مثلاً { ٱنْظُرُواْ إِلِىٰ ثَمَرَةٍ إِذَا أَثْمَرَ } أي راعوه بالمراقبة عند السلوك وبدء الحال { { وَيَنْعِهِ } [الأنعام: 99] وهو كماله عند الوصول بالحضور { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاءَ ٱلْجِنَّ } أي جن الوهم والخيال حيث أطاعوهم / وانقادوا لهم { وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ } افتروا { لَهُ بَنِينَ } من العقول { وَبَنَاتٍ } من النفوس يعتقدون أنها لتجردها مؤثرة مثله { بِغَيْرِ عِلْمٍ } منهم أنها أسماؤه وصفاته لا تؤثر إلا به جل شأنه { { سُبْحَـٰنَهُ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ } [الأنعام: 100] من تقيده بما قيدوه به جل شأنه { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَـٰرُ } قال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الحادي والعشرين وأربعمائة: يعني من كل عين من أعين الوجوه وأعين القلوب فإن القلوب ما ترى إلا بالبصر وأعين الوجوه لا ترى إلا بالبصر فالبصر حيث كان به يقع الإدراك فيسمى البصر في العقل عين البصيرة ويسمى في الظاهر بصر العين والعين في الظاهر محل للبصر والبصيرة في الباطن محل للعين الذي هو بصر في عين الوجه فاختلف الاسم عليه وما اختلف هو في نفسه فكما لا تدركه العيون بأبصارها لا تدركه البصائر بأعينها، وورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " "إن الله تعالى احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم" فاشتركنا في الطلب مع الملأ الأعلى واختلفنا في الكيفية فمنا من يطلبه بفكره والملأ الأعلى له العقل وما له الفكر، ومنا من يطلبه به وليس في الملأ الأعلى من يطلبه به لأن الكامل منا هو على الصورة الإلٰهية التي خلقه الله تعالى عليها فلهذا يصح ممن هذه صفته أنه يطلب الله تعالى به ومن طلبه به وصل إليه فإنه لم يصل إليه غيره وأن الكامل منا له نافلة تزيد على فرائضه إذا تقرب العبد بها إلى ربه أحبه فإذا أحبه كان سمعه وبصره فإذا كان الحق بصر مثل هذا العبد رآه وأدركه ببصره لأن بصره الحق فما أدركه إلا به لا بنفسه وما ثم ملك يتقرب إلى الله تعالى بنافلة بل هم في الفرائض وفرائضهم قد استغرقت أنفاسهم فلا نفل عندهم فليس لهم مقام ينتج أن يكون الحق بصرهم حتى يدركوه به فهم عبيد اضطرار ونحن عبيد اضطرار من فرائضنا وعبيد اختيار من نوافلنا إلى آخر ما قال، وهو صريح في أن بعض الأبصار تدركه لكن من حيثية رفع الغيرية. وقال في الباب الرابع عشر وأربعمائة بعد أن أنشد:

من رأى الحق كفاحاً علنا إنما أبصره خلف حجاب
وهو لا يعرفه وهو به إن هذا لهو الأمر العجاب
كل راء لا يرى غير الذي هو فيه من نعيم وعذاب
صورة الرائي تجلت عنده وهو عين الراء بل عين الحجاب

فإذا رآه سبحانه الرائي كفاحاً فما يراه إلا حتى يكون الحق جل جلاله بصره فيكون هو الرائي نفسه ببصره في صورة عبده فأعطته الصورة المكافحة إذا كانت الحاملة للبصر ولجيمع القوى الخ. وقال في الباب الحادي وأربعمائة بعد أن أنشد:

قد استوى الميت والحي في كونهم ما عندهم شي
مني فلا نور ولا ظلمة فيهم ولا ظل ولا في
رؤيتهم لي معدومةفنشرهم في كونهم صلى
وفهمهم إن كان معناهم عنه إذا حققته غي

إن كل مرئي لا يرى الرائي إذا رآه منه إلا قدر منزلته ورتبته فما رآه وما رأى إلا نفسه ولولا ذلك ما تفاضلت الرؤية في الرائين إذ لو كان هو المرئي ما اختلفوا لكن لما كان هو سبحانه مجلي رؤيتهم أنفسهم لذلك وصفوه بأنه جل شأنه يتجلى ولكن شغل الرائي برؤية نفسه في مجلى الحق حجبه عن رؤية الحق فلو لم تبد للرائي صورته أو صورة كون من الأكوان ربما كان يراه فما حجبنا عنه إلا رؤية نفوسنا فيه فلو زلنا عنا ما رأيناه لأنه ما كان يبقى بزوالنا من يراه وإن نحن لم نزل فما نرى إلا نفوسنا فيه وصورنا وقدرنا ومنزلتنا فعلى كل حال ما رأيناه وقد نتوسع فنقول: قد رأيناه ونصدق كما أنه / لو قلنا رأينا الإنسان صدقنا في أن نقول رأينا من مضى من الناس ومن بقي ومن في زماننا من كونهم إنساناً لا من حيث شخصية كل إنسان ولما كان العالم أجمعه وآحاده على صورة حق ورأينا الحق فقد رأيناه وصدقنا وإذا نظرنا في عين التمييز في عين عين لم نصدق إلى آخر ما قال. وفي ذلك تحقيق نفيس لهذا المطلب، ومنه يعلم ما في قول بعضهم { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَـٰرُ } لغاية ظهوره سبحانه { وَهُوَ ٱللَّطِيفُ } إذ لا ألطف كما قال الشيخ الأكبر قدس سره من هوية تكون عين بصر العبد { { ٱلْخَبِيرُ } [الأنعام: 103] أي العليم خبرة أنه بصر العبد { { وَٱللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ } [البروج: 20] و { { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [الشورى: 11] وعن الجنيد قدس سره اللطيف من نور قلبك بالهدى وربى جسمك بالغذاء وجعل لك الولاية بالبلوى. ويحرسك وأنت في لظى ويدخلك جنة المأوى. وقال غيره: اللطيف إن دعوته لبَّاك وإن قصدته آواك، وإن أحببته أدناك وإن أطعته كافاك وإن أغضبته عافاك وإن أعرضت عنه دعاك. وإن أقبلت إليه هداك وإن عصيته راعاك. وهو كلام ما ألطفه { قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } وهي صور تجليات صفاته. وقال بعض العارفين: إنها كلماته التي تجلى منها لذوي الحقائق وبرزت من تحت سرادقاتها أنوار نعوته الأزلية { فَمَنْ أَبْصَرَ } واهتدى { فَلِنَفْسِهِ } ذلك الإبصار أي أن ثمرته تعود إليه { وَمَنْ عَمِىَ } واحتجب عن الهدى { فَعَلَيْهَا } عماه واحتجابه { { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } [الأنعام: 104] بل الله تعالى حفيظ عليكم لأنكم وسائر شؤونكم به موجودون { { وَكَذٰلِكَ نُصَرّفُ ٱلآيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [الأنعام: 105] قال ابن عطاء أي حقيقة البيان وهو الوقوف معه حيث ما وقف والجري معه حيث ما جرى لا يتقدم بغلبته ولا يتخلف عنه لعجزه، وقال آخر: المعنى لقوم يعرفون قدري ويفهمون خطابي لا من لا يعرف مكان خطابي ومرادي من كلامي { ٱتَّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } قيل: هو إشارة إلى وحي خاص به صلى الله عليه وسلم لا يتحمله غيره أو إشارة إلى الوحي بالتوحيد ولذا وصف سبحانه نفسه بقوله: { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } ثم قال جل شأنه: { { وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ } [الأنعام: 106] المحجوبين بالكثرة عن الوحدة { { وَلَوْ شَاءَ ٱللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ } [الأنعام: 107] بل شاء سبحانه إشراكهم لأنه المعلوم له جل شأنه أزلاً دون إيمانهم ولا يشاء إلا ما يعلمه دون ما لا يعلمه من النفي الصرف { وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } بل أرشدوهم إلى الحق بالتي هي أحسن { فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } بأن يسبوكم وأنتم أعظم مظاهره { { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } [الأنعام: 108] إذ هو الذي طلبوه منا بألسنة استعدادهم الأزلي ومن شأننا أن لا نرد طالباً { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا } أي أنهم طلبوا خوارق العادات وأعرضوا عن الحجج البينات لاحتجابهم بالحس والمحسوس { { قُلْ إِنَّمَا ٱلآَيَـٰتُ عِندَ ٱللَّهِ } [الأنعام: 109] فيأتي بها حسبما تقتضيه الحكمة { { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام: 109] لسبق الشقاء عليهم { وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـٰرَهُمْ } لاقتضاء استعدادهم ذلك { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } حين أعرضوا عن الحجج البينات أو في الأزل { وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ } الذي هو لهم بمقتضى استعدادهم { { يَعْمَهُونَ } [الأنعام: 110] يترددون متحيرين لا يدرون وجه الرشاد { { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [غافر: 33].